الاسطورة والأخطوطة والمجاز
تمثل العلاقة بين الأسطورة والمخطوطة والمجاز موضوعًا غنيًا بالعمق الفلسفي والجمالي، إذ تتيح لنا هذه المفاهيم فهم كيفية التعبير عن الأفكار والمعتقدات بطريقة تتجاوز الحسي إلى ما فوق الحسي.
الاسطورة والاخطوطة والمجاز |
الاسطورة ليست أخطوطة أو مجازًا
ماهو المجاز
يعرف أليكسي لوسيف (1) المجاز بأنه عبارة عن صيغة معبَّرة، شكل من أشكال التعبير.
🔆ولكن ماذا نعني بالتعبير؟
تُعتبر عملية التعبير أحد المفاهيم الجوهرية في فهم التجربة الإنسانية، إذ إنها تنقل ما هو داخلي (الأفكار، المشاعر، الأحاسيس) إلى شكل خارجي ملموس أو قابل للإدراك (كاللغة، الفنون، السلوكيات).
🔆مكونات التعبير:
- العنصر الخارجي:
- الوسيلة المستخدمة، مثل الكلمات، الصور، الأفعال، أو حتى الإيماءات.
- يتميز بأنه واضح وقابل للإدراك من قبل الآخرين.
- العنصر الداخلي:
- الشعور أو الفكرة الأساسية التي يسعى الفرد لنقلها.
- غالبًا ما يكون معقدًا أو غير مرئي بشكل مباشر.
- طبيعة التعبير:
- هو عملية تركيبية بين الداخل والخارج؛ حيث يُدمج ما هو داخلي مع وسيلة خارجية لتجسيد الفكرة أو الشعور.
- يهدف إلى تحقيق تطابق بين الشعور الداخلي والوسيلة الخارجية بحيث تكون الأخيرة قادرة على تمثيل الأولى بوضوح ودقة.
لدينا شيء ما مثلاً حين نتأمل هذا الشيء، لا نتأمله ببساطة كما هو قائماً بذاته، بل حين نحيط به، نحيط بشيء ما آخر معه في عملية لا تنفصل، لذلك فالأول يغدو مجرد وجه يدل على الثاني، يوحي به يعبر عنه .
🔆مامعنى هذا؟
لنفترض أنك تتأمل غروب الشمس.
- ما هو ظاهر وخارجي (الوجه):
ترى الألوان البرتقالية والحمراء في الأفق، قرص الشمس يختفي تدريجيًا، وأفق السماء يندمج مع الظلام. هذا هو الجانب الخارجي، شيء ملموس يمكن لأي شخص رؤيته.
- ما هو داخلي (العمق):
أثناء تأملك، الغروب لا يكون مجرد منظر طبيعي، بل يُثير داخلك شعورًا بالسكينة أو ربما بالحزن أو تأملًا في الزمن. قد تستشعر في الغروب رمزًا للنهاية، أو تجد فيه جمال اللحظة العابرة.
- عملية التعبير في التأمل:
- عندما تنظر إلى الغروب، لا ترى مجرد مظهره الخارجي، بل تُدرك أن ما تراه يُشير إلى شيء آخر داخلي. الغروب يصبح وجهًا يوحي بمعنى أعمق كالنهاية أو الانتقال، وبهذا يُعبر عن أفكار أو مشاعر قد تكون حتى غير واعية.
- الغروب ليس مجرد "شمس تختفي"، بل يحمل في ذاته رمزًا، هو انعكاس لحالة شعورية أو فلسفية تتجاوز الظاهر، كأنه يقول لك شيئًا عن نفسك أو عن الحياة.
🔆هكذا تصبح عملية التأمل ليست مشاهدة فقط، بل إدراكًا مزدوجًا:
- إدراك للظاهر كصورة،
- وإدراك للباطن كمعنى أو شعور يُنقل عبر تلك الصورة.
🔆التعبير الناتج عن التأمل: قد تكتب قصيدة تصف الغروب، وقد تتحدث عن جماله الحزين، وقد ترسم لوحة تُجسد إحساسك به. هنا تكون قد جمعت بين مظهر الغروب وشعورك الداخلي لتعبّر عن التجربة ككل.
- التعبير حركة جدلية بين الداخلي والخارجي، حيث يتم التركيز على التحول الفعّال لما هو ذاتي (داخلي) إلى ما هو موضوعي (خارجي). أن التعبير ليس مجرد نقل أو إفصاح عن الداخل، بل هو علاقة مركبة ومتبادلة بين الداخل والخارج، حيث يشكلان وحدة متكاملة لا يمكن فصلها بسهولة.
- التطابق والتناقض بين الداخلي والخارجي، متطابقان إلى حد يصعب التمييز بينهما، ولكنهما في الوقت ذاته متناقضان بشكل جذري. هذا التناقض الظاهري يعكس حركة تعبيرية تسعى لإظهار الإمكانات الكامنة داخل الشيء وتفعيلها في الخارج.
- التعبير يوصف بأنه "تركيب تخليقي" يجمع بين الداخل والخارج بطريقة تولّد تطابقاً ذاتياً، ولكنه يحمل في طياته تفريقاً بين الجانبين. أن التعبير هو عملية ديناميكية تعيد تعريف العلاقة بين الذات والموضوع.
صحيح أننا فصلنا كثيرًا في موضوع التعبير بشكل نسينا موضوعنا الرئيسي في هذه الفقرة وهو توضيح معنى المجاز، ولكن يجب أن لاننسى إننا قلنا أن المجاز هو صيغة معبَّرة، شكل من أشكال التعبير.
يتم تحدبد نوع التعبير بالأستناد الى نوع العلاقة ما بين الداخلي والخارجي
- كيف تكون العلاقة مابين الداخلي والخارجي في المجاز؟
- ويُوضح هذا الشكل كيف تتشابك العلاقة بين الداخلي والخارجي بطريقة معقدة وغير متوازنة، حيث يُهيمن الخارجي ولكنه لا يفقد صلته تمامًا بالداخلي.
- وبهذا يمكن العثور على خاصية المجاز بالوقوف على شكل من أشكال العلاقة المتبادلة بين الداخلي والخارجي عمومًا.
- في المجاز، "الخارجي" يُقدَّم بوصفه الأبرز، ويصبح هو الوسيط الرئيسي للتعبير، في حين أن "الداخلي" يتراجع إلى خلفية غامضة وغير مباشرة.
- الفكرة الداخلية لا تظهر بوضوح وإنما تُلمَّح إليها أو تُستشف من خلال الصورة الخارجية.
- رغم سيطرة الخارجي، إلا أنه لا يكون مستقلاً تمامًا. بل يجب أن "يدل" بطريقة ما على الداخلي، لكنه يقوم بذلك من خلال صور توضيحية أو إيحائية لا ترتبط جوهريًا بالفكرة نفسها.
- الفكرة تُقدَّم في المجاز على هيئة صورة عرضية، حيث العلاقة بين الفكرة والصورة ليست علاقة تطابق بل علاقة ترابط عرضي.
- النص يستشهد بأمثولات كريلوف الشعرية كمثال نموذجي للمجاز:
- النملة في الأمثولة لا تُعامل كحقيقة واقعية، بل كرمز أو صورة تعبر عن فكرة معينة.
- الانفعالات المعقدة المنسوبة إلى النملة ليست مقصودة بوصفها حقيقية، بل هي وسيلة مجازية للإشارة إلى فكرة أخلاقية أو معنوية.
- الصورة (النملة) والفكرة (الدروس الأخلاقية) منفصلتان ماديًا وموضوعيًا، ولكن بينهما نوع من الترابط الذي يُبقي على الفكرة غير ظاهرة تمامًا.
- العلاقة بين الفكرة والصورة في المجاز تتسم بالانفصال المادي رغم وجود ترابط معنوي.
- هذا الانفصال هو ما يجعل المجاز مختلفًا عن أشكال أخرى للتعبير (مثل الأخطوطة) التي تُظهر الفكرة بوضوح.
- في التعبير المجازي، هناك انحياز واضح نحو الحسي والملموس على حساب التجريد والمثالية.
- المجاز يتيح للأفكار أن تُفهم عبر وسائط حسية غنية ومليئة بالتفاصيل، ولكنه في ذات الوقت يجعل الفكرة أقل وضوحًا وأكثر قابلية للتأويل.
- العلاقة العرضية بين الصورة والفكرة تجعل المجاز وسيلة فعالة للتعبير عن الأفكار المعقدة التي لا يمكن شرحها مباشرة.
- الفكرة "تظهر بلا ظهور" في المجاز، مما يخلق مستوى من العمق والغموض الذي يُغني التعبير.
- الأخطوطة: تُظهر الفكرة العامة بشكل واضح ولكنها تُقصي الحسي.
- المجاز: يُبرز الجانب الحسي ولكنه يجعل الفكرة العامة غامضة وغير مباشرة.
- في الأدب: استخدام الرموز والشخصيات كوسائل لتوصيل أفكار فلسفية أو أخلاقية، مثل الأساطير والحكايات.
- في الفنون البصرية: الرمزية في اللوحات الفنية حيث تُستخدم الصور للدلالة على أفكار أو مشاعر غير مرئية.
- في الحياة اليومية: المجاز في اللغة، مثل استخدام تعبيرات مثل "القلب الثقيل" للدلالة على الحزن.
🔆ذلك هو الشكل الاول - التعبير بالمجاز. فهل الاسطورة هي مجاز ؟
- المجاز كعلاقة غير متكاملة بين الفكرة والصورة:
- في المجاز، العلاقة بين "الصورة" و"الفكرة" غير متساوية:
- الصورة تكون دائمًا أكثر وضوحًا وتحديدًا، مليئة بالتفاصيل والألوان.
- الفكرة تظل مجردة وغير مرئية، مما يخلق فجوة بين الصورة والفكرة.
- نظريات القرن التاسع عشر (الميثولوجية، الأنثروبولوجية، وغيرها) أساءت تفسير الأسطورة عبر النظر إليها كمجرد مجاز أو رمز لظواهر طبيعية (مثل الشمس أو العواصف) أو لواقع آخر أكثر أهمية.
- الأسطورة ليست رمزية أو استعارية، بل هي واقع مباشر وحقيقي:
- غضب أخيل في الإلياذة ليس رمزًا لغضب كوني أو طبيعي، بل هو غضب شخصي حقيقي.
- نرسيس ليس مجازًا لنرجسية الإنسان، بل هو شاب حقيقي عاش تجربة شخصية أدت إلى وفاته.
- الأسطورة يجب أن تُفهم كواقع حرفي ومستقل قبل محاولة إدخال أي تفسير مجازي.
- إذا كان هناك جانب مجازي للأسطورة، فهو ثانوي بالنسبة لواقعيتها الأساسية.
ماهي الاخطوطة
- يتميز هذا الشكل التعبيري بترجيح الداخلي (الفكرة العامة) على الخارجي (الوسائل الحسية أو المكونات).
- الخارجي هنا ليس سوى وسيلة ضرورية لظهور الداخلي، ولكنه لا يضيف أي قيمة جديدة للفكرة الداخلية أو يُثريها.
- مثال الميكانيزم: في الميكانيزمات (كالآلات)، تظهر الفكرة العامة بوضوح، ولكن المكونات الفردية (مثل العجلات والبراغي) لا تُثري الفكرة أو تضيف إليها مضمونًا. هي فقط وسائل لترجمة الفكرة الداخلية إلى شكل خارجي.
🔆ذلك هو الشكل الثاني - التعبير بالأخطوطة. فهل الاسطورة هي أخطوطة ؟
- الأسطورة ليست أخطوطة؛ لأنها لا تكتفي بتقديم فكرة مجردة بل تُمثّل الحياة ذاتها.
- في الأسطورة، العلاقة بين الداخلي والخارجي تكون أكثر عضوية:
- الشخصيات والأساطير ليست مجرد أدوات لعرض الفكرة، بل هي مفعمة بالمعنى والحياة.
- الأسطورة تُدمج بين الفكرة المثالية (الداخلية) والعالم الحسي (الخارجي) بطريقة تجعل الخارجي غنيًا ومهمًا بحد ذاته.
- الأخطوطة: تُعبّر عن العام المجرد فقط، وتُقصي الخاص والملموس.
- الأسطورة: تُبرز العلاقة الجدلية بين المثالي والحسي، حيث الحسي (الخارجي) لا يُختزل إلى وسيلة بل يُصبح جزءًا لا يتجزأ من التعبير.
إذا كان الميكانيزم يمثل عقلانية صارمة ومجردة، فإن الأسطورة تمثل حيوية ودفء الحياة
التعبير بالأخطوطة يُناسب المفاهيم العلمية، أما الأسطورة فتُناسب المفاهيم الثقافية والفنية
🔆سؤال للتأمل:
كيف يمكننا تطبيق هذه الأفكار على التعبير الحديث في الفن أو الأدب؟ وهل يمكن للأسطورة أن تعود كوسيلة تعبيرية رئيسية في العالم المعاصر؟
ماهو الرمز
ثالثًا: الشكل الثالث من أشكال التعبير هو الرمز. وهنا، بما يعاكس الأخطوطة والمجاز ، نجد التوازن التام بين "الداخلي" و "الخارجي، بين الفكرة والصورة، بين"المثالي" و"الواقعي".وسنذكر حصائص الرمز.
- الرمز كتوازن بين الفكرة والصورة:
- في الرمز، هناك تناغم وتوازن تام بين الفكرة والصورة.
- "الفكرة" ليست مجردة تمامًا، فهي ملموسة وحسية وواضحة.
- "الصورة" ليست مجرد تجسيد بسيط للفكرة، بل تضيف إليها أبعادًا جديدة.
- التفاعل بين الفكرة والصورة:
- في الأخطوطة، الفكرة والظاهرة (الصورة) متطابقتان تمامًا، بحيث لا يضيف أي منهما شيئًا جديدًا للآخر.
- في المجاز، هناك تطابق بين الفكرة والظاهرة، لكن الظاهرة ليست مجردة أو خالصة، مما يجعل الفكرة نفسها محدودة.
- أما في الرمز، فهناك علاقة تبادلية، حيث تضيف الفكرة شيئًا جديدًا للصورة والعكس.
- الرمز كواقع مستقل:
- الرمز يتسم بتداخل الفكرة والصورة بحيث يصعب فصل أحدهما عن الآخر.
- ومع ذلك، يبقى هناك تمايز بينهما، لكن نقطة التقائهما تصبح واضحة للعيان.
- التمايز بين الرمز والأخطوطة والمجاز:
- الأخطوطة والمجاز، رغم اختلافهما عن الرمز، لا يقدمان التكامل ذاته بين الفكرة والصورة
- الرمز يعبر عن مستوى أعمق من الفهم والتمثيل، حيث تتفاعل الفكرة والصورة بشكل ديناميكي ومتكامل.
الفرق بين الأنماط التعبيرية الثلاثة (الأخطوطة، المجاز، الرمز)
- الأخطوطة: تمثل بناءً آليًا أو مخططًا مجردًا للأشياء، حيث "الفكرة" تُقدَّم كطريقة للبناء والإدراك، وليس كحقيقة ملموسة.
- المجاز: يقوم على تطابق "الداخلي" (الفكرة) مع "الخارجي" (الصورة) بشكل مجازي ودلالي فقط، حيث يتطابق جزء من "الفكرة" مع جزء من "الصورة".
- الرمز: يحدث فيه تطابق متكامل وواقعي بين "الفكرة" و"الصورة"، بحيث يضيف كل منهما جديدًا للآخر، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض.
- في الرمز، "الفكرة" و"الصورة" تندمجان في علاقة ديناميكية بحيث لا يمكن النظر إلى أحدهما بمعزل عن الآخر.
- الرمز يخلق واقعة قائمة بذاتها، فهو ليس مجرد وسيلة إيضاح أو شرح، بل كيان مستقل يتفاعل فيه الداخلي والخارجي بعمق.
- الفن (مثل المسرح) مقارنة بالحياة يُعتبر مجازًا، لكنه في ذاته رمز.
- الحياة بذاتها رمزية، لأن البشر يعيشون ما يعبّرون عنه وليس مجرد تمثيل له.
هل الأسطورة نموذج رمزي؟
- الأسطورة ليست مجرد مجاز أو أخطوطة؛ إنها رمز معقد يحمل طبقات متعددة من المعاني.
- في الأساطير، الأبطال والشخصيات غالبًا ما يمثلون مبادئ كونية أو عناصر أساسية للوجود (مثل الزمن، الأرض، الكون).
- قد تحتوي الأسطورة على مستويات رمزية متعددة يمكن أن تكون مترابطة فيما بينها.
- الأساطير الكونية (مثل أساطير نشأة الكون ونهايته) تحمل رموزًا متعددة تعبر عن مفاهيم ومبادئ كونية.
- الأمثلة تشمل شخصيات مثل "فودان"، "كرون"، "الزانية العظيمة"، وغيرها، التي تُعبّر عن مصير العالم ومبادئه الكونية.
- أليكسي لوسيف/ فلسفة الاسطورة/ صفحة 93.