recent
أهم الموضوعات

فلاسفة الطبيعة الأيونيون

فلاسفة الطبيعة الأيونيون

قام سكان المستعمرات الأيونية بتوسيع فلسفة طاليس، حيث أخذوا قضاياه وعمّقوها بشكل أكبر، مما ساهم في تطور الفلسفة الطبيعية في تلك المنطقة.

فلاسفة الطبيعة الأيونيون
فلاسفة الطبيعة الأيونيون

وقد تعمقوا في طابعه الهيلوزي بصورة أعمق وأكثر تعقيدًا. على سبيل المثال، طور أنكسماندرس أفكاره بأسلوب تأملي يتجاوز الأفكار المادية التي قدّمها طاليس.

أما أنكسيمينس، فقد اتخذ منحى مختلفًا في تعامله مع أفكار طاليس، حيث اعتمد على منهج خاص به، مما أضفى بعدًا جديدًا على فلسفة فلاسفة الطبيعة الأيونيون.

أناكسماندرس - أناكسمينس

إن أنكسماندرس كان يقطن في مدينة ميليت، وهي نفس المدينة التي عاش فيها أستاذه طاليس. وُلد حوالي عام 609 أو 610 ق.م. وتوفي في عام 547 أو 546 ق.م، أي تقريبًا في نفس الفترة التي توفي فيها طاليس.

يقال إنه كان أول من كتب عملاً فلسفيًا في اليونان بعنوان "حول الطبيعة". وتذكر جميع المصادر أن أنكسماندرس كان من أذكى الفلاسفة القدماء.

أما أنكسيمينس، فقد كان الفيلسوف الثالث الذي أنتجته مدينة ميليت. لا توجد تفاصيل كثيرة عن حياته، لكنه يُحتمل أنه عاش في الفترة ما بين 585 - 525 ق.م. وله أيضًا مؤلف بعنوان "حول الطبيعة"، مكتوب بلغة نثرية مبسطة. وبالمقارنة مع أنكسماندرس، يبدو أنكسيمينس وكأنه الفيزيائي مقارنة بالميتافيزيائي، مما يظهر الفروق الفكرية بين فلاسفة الطبيعة الأيونيون.

مفاهيم فلاسفة الطبيعة الأيونيون

  • الأساس والطبيعة عند فلاسفة الطبيعة الأيونيون

كان طاليس يفكر في بداية العالم، ولم يكن أنكسماندرس هو أول من استخدم مصطلح "بداية" (Arche-αρχμα). كان هذا المصطلح في البداية دارجًا، لكنه تحول إلى مصطلح فلسفي مع أنكسماندرس، الذي كانت "البداية" تعني بالنسبة له الشيء الأول في تطور الكائنات. وذلك لأنه كان متأكدًا من أن ما وُجد في البداية لا يكف عن التواجد، وإنما يأخذ شكلاً آخر.

كان طاليس يبحث عن الماء الذي وُجد في البداية ثم تحول إلى مادة من نوع آخر، بينما بحث أنكسماندرس أيضًا عن المادة الأولى، مع التأكيد على أنها طالما وُجدت في السابق، فهي موجودة حاليًا وستبقى. كان يعتبر خواص الأشياء خواصًا أولية ودائمة وأساسية. بالنسبة له، كانت كلمة "البداية" تعني ليس فقط مجرد البداية، وإنما أساس الأشياء، ليس خاصتها الأولية فقط وإنما الثانية أيضًا.

هكذا أحدث تغييرًا في القضية الرئيسية للفلسفة، حيث بدأت تتحول إلى شيء أكثر من مجرد "البداية". وهكذا تحول مصطلح Arche من "بداية" إلى "أساس" (وهو نفس التغيير الذي حدث لاحقًا للكلمة اللاتينية Principium، التي تحولت من معنى "بداية" إلى معنى "أساس").

وهكذا أصبحت كلمة "أساس" ثابتة في القاموس الفلسفي. وبنفس الطريقة، قام أنكسماندرس بتحويل معنى المصطلح الثاني الأساسي في الفلسفة وهو "الطبيعة" (Nature). كان هذا المصطلح الإغريقي يعني ذلك الشيء الذي يوجد وينمو ويتوالد. بينما كان طاليس يبحث عن بداية الطبيعة، كان فكر خلفائه يتجه ليس نحو بدايتها وإنما نحو الشيء الذي وُجد فيها منذ البداية.

أطلقوا اسم الطبيعة على كل شيء وُجد منذ البداية ويتواجد في اللحظة الحالية ويستمر. وبنفس المعنى الذي نتحدث فيه الآن عن طبيعة الأشياء، تحول المصطلح من المعنى الدارج، الذي كان يشير إلى الشيء الذي يخضع للتغيير، إلى معنى يناقض ذلك، وهو الشيء الذي لا يخضع للتغير في الأشياء.

ليس هناك دليل ثابت بأن أنكسماندرس كان مبدع هذا التغيير، ولكن حتى إن لم يكن يعرف هذا التغيير. لم يكن مصطلح "الطبيعة" عند الإغريق يعني الكيان العام للظواهر الطبيعية كما نعرفه اليوم، وإنما كان يعني فقط القانون الذي يحكمها، أي قاعدتها العامة، النظام الطبيعي. وهو ما نسميه حاليًا "طبيعة الأشياء". كانت الظواهر واضحة للحواس، لكن الطبيعة صعبة وتحتاج إلى البحث. كانت الظواهر متنوعة، لكن الطبيعة واحدة.

الظواهر عارضة، أما الطبيعة فهي حتمية. وهكذا كانت الطبيعة تعني المعنى المناقض لما خلقه الإنسان ووصفه. فالشيء الطبيعي هو كل شيء حتمي وعام وغير خاضع للإنسان. كانت الطبيعة تمثل قمة الكمال والجمال الذي لا يساويه - حسب رأي الإغريق - أي فن من الفنون.

  • اللامحدودية عند فلاسفة الطبيعة الأيونيون

تتبع تغييرات القضايا تغييرات في الإجابة. كتب أرسطو يقول إن أنكسماندرس "كان يعتقد بأن الأساس ليس هو الماء ولا أي شيء مما يسمى بالعناصر الحيوية، وإنما طبيعة أخرى غير محدودة قامت منها كل الأجسام السماوية والأرضية". يعني هذا أنه تعامل مع القضايا بمنهج آخر، حيث مضى في بحثه عن الأساس أبعد من مجرد الملاحظة.

بملاحظته أن جميع العناصر تتحول من واحدة إلى أخرى، استنتج أنه لا يمكن اعتبار أي منها أساسًا، بل يجب أن يكون الأساس خارج نطاقها. وافترض أن ما تنشأ منه كل أنواع المادة لا يمكن أن يكون بدوره أحد أنواعها. كان أكثر جرأة من طاليس ومن أغلبية فلاسفة الطبيعة الأيونيون، الذين اختاروا المادة الأولى من الأنواع المعروفة لديهم.

ولكن ما هو الأساس الذي اختاره أنكسماندرس؟ اللامحدودية. وكانت هذه الإجابة تحتوي فقط على الخاصية الكمية للمادة الأولى، وهي عدم محدوديتها. ولم يذكر خاصيتها النوعية، إذ إن عدم المحدودية يرتبط بعدم التحديد النوعي.

في رأيه، الطبيعة تنشأ من الفوضى وليس من احتياطي المادة، حيث وجدت الفوضى دائمًا وستستمر، وتفقد خاصية عدم التحديد عندما تشكل منها الطبيعة.

ما الذي أدى إلى اعتبار اللامحدودية أساسًا؟ يقول أنكسماندرس بأنه يجب أن يكون الأساس هو اللامحدودية، لأن كل شيء محدود ينتهي. كان يعتقد بأن تطور الطبيعة اللامحدود هو أساسها، وعليه فهو لم يعتمد على الملاحظة، وإنما على الاستنباط. كانت نتائجه أكثر جرأة، ورغم ذلك لم تكن الفكرة جديدة تمامًا على الفكر الإنساني، فقد افترضت الأساطير أن العالم خرج من الفوضى واللامحدودية. وقد تكون هذه الفكرة مستمدة من شعوب الشرق.

  • نشوء الطبيعة عند فلاسفة الطبيعة الأيونيون

نشأت الطبيعة من اللامحدودية، ولكن بأي طريقة؟ كيف تم تحويل المادة؟ كانت هذه القضية الثانية من حيث الأهمية بالنسبة لأنكسماندرس وفلاسفة الطبيعة الأيونيين الآخرين. كان طاليس يتخيل نشوء الطبيعة ببساطة شديدة، باعتبارها عملية تحول. كان في البداية الماء، ثم تحول إلى أرض وهواء وأشياء أخرى.

أما أنكسماندرس، فقد كان يفهم الموضوع بصورة أكثر علمية. يقول أحد مؤرخي الفلسفة القدامى إن أنكسماندرس "كان يفترض عملية النشوء هذه لا بوصفها تحولًا للعناصر الحيوية، وإنما بوصفها نتاجًا للتناقضات". كان يقول إن اللامحدودية الأولية تحتوي على عناصر التناقض، وقامت الطبيعة كنتيجة لهذه التناقضات.

ما هو السبب المباشر لنشوء الطبيعة؟ هو الحركة الدائمة. الحركة لا تنفصل عن المادة، وكانت هذه فكرة عظيمة. تحتوي الحركة على قوانينها الخاصة. كتب أرسطو في هذا الصدد يقول: "إن الوجود الذي يخرج من شيء معين يرجع إلى ذلك الشيء حسب قانون حتمي". وقد عبر أنكسماندرس عن هذه الفكرة بلغته الشاعرية بقوله: "إن كل وجود يدفع ضريبة على التنظيم غير العادل للزمان".

لم يقم أنكسماندرس فقط بصياغة القانون العام لتحول المادة، وإنما سجل أيضًا تفصيلًا للنظام الذي تم به هذا التحول. باستخدام قاعدته العامة، حاول أن يشرح لماذا كان للطبيعة شكل محدد وليس غيره؟ ولماذا تقع الأرض في الوسط وحولها النجوم؟

كان هذا أول تفسير غير أسطوري لظواهر الطبيعة. في البداية، وُجد التناقض بين البرودة والحرارة، ومن هذا التناقض ظهرت الحالات الأخرى، بداية من الأرض، التي هي أكثر كثافة، مرورًا بالماء والهواء وحتى النار. وجدت الأرض في الوسط لأنها ثقيلة، وأحاطت بها الأجسام السماوية. شكل الماء تبخر إلى جهة وسطى بين الأرض والأجسام السماوية.

كان هذا التفسير الميكانيكي للطبيعة أساسًا للنظريات التي حاولت شرح الكواكب بعد عشرين قرنًا. مثل الفلاسفة القدماء، قام أنكسماندرس بأعمال محددة في دراسة الطبيعة. كان أول إغريقي يقوم بوضع خريطة. كما قاس مسافات وأحجام النجوم، واهتم أيضًا بالكائنات العضوية، وقام بالتمييز بين الحيوانات البحرية والبرية وبين الإنسان والحيوانات الأخرى.

ولكن التطبيق الحقيقي لأفكاره الفلسفية في مجال العلوم الطبيعية قام به تلميذه أنكسيمينس.

تأثير فلاسفة الطبيعة الأيونيون

تطورت فلسفة الأجيال اللاحقة بالاستفادة من المفاهيم والقضايا التي طرحها فلاسفة الطبيعة الأيونيون. كانت مسألة البحث عن أساس وبداية العالم هي القضية الرئيسية في الفلسفة. في الواقع، لم يقتصر الأمر على طرح القضايا، بل ظهرت أيضًا الحلول البدائية.

حتى في عهد بركليس، كان هيبون الساموزي يعتقد، تمامًا مثل طاليس، بأن الماء هو أساس كل شيء. كما كان ديوجنيس الأبولوني يشاطر أنكسمينس الرأي بأن الهواء هو الأساس. أما الشاعر الكوسموجوني فيريكيدس السيزوري، فكان من أنصار أنكسماندرس.

google-playkhamsatmostaqltradent