بارمنيدس و المدرسة الإيلية
في نفس الفترة التي ظهرت فيها فلسفة هيراقليطس في اليونان، ظهرت فلسفة مناقضة لها تماماً. فلسفة تعارض تنوع العالم وترى في الثبات الخاصية الأولى للوجود. ظهرت هذه الفلسفة في المستعمرات الإغريقية الغربية، وبالتحديد في مدينة إليا الإيطالية، ومن هنا أطلق عليها اسم المدرسة الإيلية.
بارمنيدس |
كان مؤسس هذه الفلسفة هو بارمنيدس الإيلي، الذي عاش في الفترة ما بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. وُلِد في إليا وعاش فيها معاصراً لهيراقليطس. يُقال إنه كان يستمع إلى محاضرات أكسينوفانيس (من المهم توضيح إنه يوجد فرق بين اكزينوفان الإيلي وأكسينوفان الأثيني لتجنب الالتباس).
كتب بارمنيدس أعماله الفلسفية شعراً، ولكنها كانت بعيدة عن الشعر المألوف. يُعتبر بارمنيدس من أعظم شخصيات الفلسفة اليونانية وقاراً وتأثيراً. لم يكن أنصار المدرسة الإيلية كثيرين، ولكنهم استمروا في التأثير عبر الأجيال المختلفة.
استمرت الفلسفة الإيلية على مدار أربعة أجيال. الجيل الأول كان يُمهّد لظهورها، بينما أبدع الجيل الثاني فلسفتها، ودافع الجيل الثالث عنها، فيما طوّر الجيل الرابع هذه الفلسفة.
- أكسينوفانيس كان واضع بدايات هذه الفلسفة، وجاء من أيونيا، مما جعله يمثل صلة الربط بين الفلسفتين الأيونية الإيلية.
- أعطى بارمنيدس هذه الفلسفة شكلها النظري بتطويرها إلى نظرية حول الوجود والمعرفة.
- أما زينون، فقد قدّم منهجه الجدلي.
- وأخيراً، قامت المدرسة المغارية بتحويل الجدل الزينوني إلى غاية في حد ذاتها.
فلسفة بارمنيدس
- الفكرة الرئيسية
تتميز النظريات الفلسفية الأولى للإغريق بصياغات مبهمة - للوهلة الأولى - للتناقض بين الوحدانية والتعدد. ذلك لأنهم أخذوا أساسًا واحدًا للعالم، رغم أن العالم يتكون من أشياء متعددة. كما نادوا بتناقض آخر بين الثبات والتغيير، إذ أخذوا أساسًا غير متغير للعالم، بينما تخضع لتغيرات متنوعة.
لم يهتم الفلاسفة الأيونيون بهذه التناقضات، لكن الفلاسفة اللاحقين انقسموا إلى معسكرين. هيراقليطس كان يرى في الأشياء تنوعها وتغييرها، وركز على التناقضات الكامنة في الأشياء. بينما كان موقف بارمنيدس، الذي اعتمد على أعمال أكسينوفانس، مناقضًا تمامًا لهذه المواقف.
يعتقد بارمنيدس أن تشخيص هيراقليطس للأشياء كان سليمًا، إذ أن الظواهر مليئة بالعديد من التناقضات. لكنه يرى أن هيراقليطس أخطأ في اعتقاده أن التناقض يكمن في طبيعة الوجود نفسه، حيث أن التناقضات تلغي بعضها البعض. وبهذا تصبح الظواهر المليئة بالتناقضات غير معبرة عن الوجود.
يقول هيراقليطس إن الطبيعة تغير خصائصها باستمرار، ويعترف بارمنيدس بذلك. لكنه يخرج بنتيجة مختلفة تمامًا، وهي أنه لا يوجد شيء ثابت في الطبيعة. فالأشياء قد تتواجد ثم لا تتواجد، وعليه من المبالغة أن نعتبر الأشياء التي تتواجد في الطبيعة "وجودًا" حقيقيًا.
لذلك، لتوضيح هذا الفهم الخاطئ، قام بارمنيدس بتطوير مفهومه الخاص عن الوجود، والذي أصبح أحد أسس المدرسة الإيلية.
- نظرية الوجود
كان مدخل بارمنيدس لهذا المفهوم بسيطًا جدًا، إذ يعتمد على مقولة واحدة. يتحتم علينا التفكير والقول بأنه يوجد فقط ما هو كائن. أما اللاوجود فلا مكان له. وهذا ما نطلق عليه اليوم اسم "قاعدة التطابق الوجودية".
في هذا الجزء، يستند بارمنيدس إلى قاعدة بسيطة تمثل محور أفكاره حول الوجود، وهي أن "الوجود هو، واللاوجود ليس". ومن هذه القاعدة، توصل إلى عدة نتائج هامة عن خصائص الوجود.
الوجود ليس له بداية: يسأل بارمنيدس "من أين يمكن أن يأتي الوجود؟". ويجيب أنه لا يمكن أن يأتي من اللاوجود، لأن اللاوجود غير موجود. إذاً، لا يمكن للوجود أن ينبثق من اللاوجود، مما يعني أن الوجود كان دائمًا موجودًا، ولم يبدأ في أي لحظة.
الوجود ليس له نهاية: بنفس المنطق، لا يمكن للوجود أن ينتهي إلى اللاوجود. لأن اللاوجود لا يمكن أن يكون حالة نهائية للوجود. وبالتالي، إذا كان الوجود لا ينتهي إلى اللاوجود، فإن الوجود سيبقى دائمًا، أي أنه خالد.
إجمالاً، بارمنيدس يرى أن الوجود لا يمكن أن يبدأ ولا ينتهي، لأنه يتناقض مع فكرة اللاوجود، مما يجعله خالدًا وأزليًا.
كما أن الوجود مترابط، لأن أي انقطاع له يمثل لا وجود. وهو ثابت، أي لا يتغير إطلاقًا، لأن أي تغيير يتحول إلى لا وجود. وهو غير قابل للانقسام، لأن أي انقسام سيكون لا وجود، ولا توجد فيه أي اختلافات، لأن أي اختلاف يعني لا وجود. وعليه، فالوجود ثابت وواحد، وهو يعارض مفهوم التعدد.
هناك كلمات يعتقد البشر بأنها حقيقة، ولكنها مجرد كلمات، مثل: التواجد والفناء، الوجود واللاوجود، تغيير المكان وتلألؤ الألوان. كان هذا انفصالًا تامًا عن المدرسة الأيونية التي كانت تربط الأشياء بالحركة.
ولكن، هل هذا الوجود الذي يتكلم عنه بارمنيدس هو نفس الوجود المادي الذي تكلم عنه الأيونيون، والذي قال عنه هيراقليطس إنه متغير ومتنوع؟ وهل يمكن أن يكون هذا وجودًا آخر وتجريديًا، غير مادي، وخارج نطاق عالمنا؟
مثل هذا الكلام يعتبر تجاوزًا لعصر بارمنيدس، لأن الفكر الإنساني لم يتجاوز في ذلك الزمن العالم والمادة. كان بارمنيدس يقصد نفس هذا الوجود المادي الذي يفكر فيه الفلاسفة الآخرون، بالرغم من اختلاف مفهومه.
وهكذا يصبح العالم في مفهومه محدودًا في كل الاتجاهات، ويشبه الكرة تمامًا. كانت نظرية هيراقليطس تتفق مع التجربة ومع الصورة الحسية للعالم، ولكن توصل بارمنيدس إلى نتائج أخرى بأسلوب أكثر تجريدًا.
إذ كان يعتقد أن نتائج التفكير هي التي تعطي صورة للعالم أكثر دقة من الظواهر، وتهتم بالأساس الثابت الموحد الدائم للعالم. عرف بارمنيدس الظواهر من زاوية تغيرها وتنوعها، بل لقد تكلم عن تفاصيل ذلك في الجزء الثاني من قصيدته، ولكنها لم تكن - حسب فهمه - "كلمات مؤكدة" أو "تفكير حقيقي"، وإنما كانت "تفكير إنساني واهم".
ابتعدت نتائج بارمنيدس عن التجربة وأدت إلى تقسيم حتمي بين الوجود والظواهر. لم يقم بارمنيدس بنفسه بصياغة هذا التقسيم الحاسم، ولكنه تنبأ به، وعلى هذا الأساس فقد حملت فلسفته الواحدية على الرغم مما يبدو من تناقض - بداية للثنائية التي لم تكن فلسفة هيراقليطس تملكها.
- المنهج الاستنباطي
اختلف بارمنيدس تمامًا مع حقائق التجربة التي سجلها هيراقليطس بدقة وقام بتعميمها. وعليه، فقد استخدم لأول مرة وبصورة واعية المنهج الاستنباطي، وكان بذلك رائدًا لأولئك الفلاسفة الذين رفضوا التجربة كمصدر للمعرفة، واستمدوا المعرفة كلية من الافتراضات "القبلية" (Apriori).
كان يثق فقط بالفهم والاستنباط، وكان يعترف فقط بالمعرفة الذهنية، بينما تعتبر المعرفة الحسية ناقصة، لأنها تعطي صورة للعالم متغيرة تمامًا. وقد وافق مسلكه هذا الميل الطبيعي للذهن، حيث إن الوحدة والثبات هما احتياج العقل لعمله في مجال البحث.
لكن بارمنيدس، بوصفه فيلسوفًا بدائيًا، قام بتبسيط مخل للقضايا ولم يضع في اعتباره أن البحث العلمي للواقع بجانب مطالب المعرفة يحتاج إلى معرفة الحقائق التي تؤكد أو تنفي ما يحتاجه العقل للبحث. ولذلك، كان يقتصر فقط على المنهج الاستنباطي، وباعتماده فقط على المفاهيم، خرج باعتقاد بأن للوجود صفة الثبات، وأن الثبات ينفي وجود أي تغيير.
وعليه، لم تكن للتجربة علاقة بالوجود البارمنيدي، فقد انفصلت العلاقة بين الوجود والتجربة، وبين التفكر ومعرفة الحقائق. كان بارمنيدس مفكرًا عظيمًا ولكنه خلق أسوأ المفاهيم. وقد وقعت الفلسفة كثيرًا في هذا الخطأ الإيلي.
- الأسس المعرفية
كانت المقولة الأولى التي اعتمد عليها بارمنيدس في دراساته في الوجود سليمة، إلا أنه حاول إثباتها معرفيًا (ابستمولوجيًا). كان يناقش بالصورة الآتية: من أين نعرف أنه "لا يوجد اللاوجود"؟ لأنه لا يمكننا إطلاقًا التفكير في اللاوجود. "لا يمكننا معرفة ولا تأكيد اللاوجود". لماذا؟ لأن هناك علاقة وثيقة بين الفكر والوجود. "هذا الشيء موجود يعني أن هنالك تفكير فيه"، "نفس الشيء هو الفكرة والشيء الذي تمسه الفكرة، لأنه لا يمكن أن توجد فكرة بدون شيء موجود".
هذا الأسلوب مهم جدًا في نظرية المعرفة. وقد كان مناسبًا لمنهج الفكر الإغريقي، لأنه له خاصية محايدة ويعكس فقط "ما هو موجود". وهنا قام بارمنيدس لأول مرة بالتركيز على العلاقة بين الفكر والوجود. ولكن أدى عدم التفرقة بين المفاهيم إلى التطابق بين الفكر والوجود. من العبث بالطبع إرجاع هذا التطابق إلى المثالية في الفكرة التي تجعل من الوجود فكرة، أو إلى المادية التي تجعل من الفكر انعكاسًا ماديًا للواقع.
كان معنى مقولات بارمنيدس أبسط من ذلك كثيرًا: إن الفكرة عندما لا تكون خاطئة، لا تختلف في محتواها عن الواقع الكائن. في الواقع، تعتبر مقولة بارمنيدس عن التطابق بين الواقع والفكر أقل احتواءً على المتناقضات الداخلية مما نعتقد الآن. إذ لم يتم التفريق في ذلك الوقت بين الفكرة التجريدية والفكرة الحدسية؛ لم يطابق الإغريق القدامى بين الفكرة وعملية الفهم، وإنما بالعكس، ساد اتجاه لفهم الفكرة باعتبارها حدسًا، نوعًا معينًا من رؤية الأشياء ولمسها ذهنيًا. لم تفهم الفكرة المجردة، وإنما عوملت باعتبارها شيئًا محددًا يمكن أن يتطابق مع الوجود الموحد.
كان بارمنيدس يطابق بين الفكرة والوجود، بالرغم من أنه كان يعلم أن الحس الإنساني يخضع للوهم والخيال المملوء بالأخطاء. ولكنه طابق الوجود بالفكرة لا بالحدس ولا بالتصور. وقد كان يفرق دائمًا بين الفكرة والحدس بقوله إن "الفكرة لا تخضع للتعود ولا تستلم للنظر الذي لا يعرف رؤية الصوت الداوي واللغة. لا يمكنك الحكم على هذه الأفكار المتناقضة التي أقولها لك بالفكر".
وعليه، قام بارمنيدس، تمامًا مثل هيراقليطس، بأعمال ضخمة في مجال التفريق بين المعرفة الحسية والمعرفة الذهنية. كان هذا عملاً جليلًا ورائدًا في ذلك الزمن.
أهمية بارمنيدس
إضافةً لدوره الرائد في المدرسة الإيلية، قام بارمنيدس بدور عظيم في عدة مجالات:
وضع النظرية الرئيسية لوحدة الوجود وعدم تغيره: كانت الفكرة الأساسية التي طرحها بارمنيدس هي أن الوجود واحد وثابت، وأن أي تغيير أو تعدد في الوجود يعتبر مجرد وهم. هذا المبدأ شكل أساسًا للفلسفة الإيلية وأثر بشكل كبير على الفكر الفلسفي فيما بعد.
المفهوم حول عدم انفصال الوجود عن الفكرة: أشار بارمنيدس إلى العلاقة الوثيقة بين الفكر والوجود، مؤكدًا أن التفكير في شيء ما يعني أن هذا الشيء موجود. وبذلك، قدم رؤية فلسفية تتجاوز الحدود التقليدية بين الوجود المادي والمفاهيم الفكرية.
التفريق بين الفكرة والحدس: قام بارمنيدس بتطوير مفهوم الفكرة كنوع من المعرفة الذهنية، مميزًا إياها عن الحدس. كان يؤمن بأن الفكرة، عندما تكون صحيحة، تعكس الواقع الكائن بشكل دقيق، بينما الحدس قد يخضع للأخطاء والوهم.
المنهج الفلسفي الاستنباطي والجدلي: استخدم بارمنيدس منهجًا استنباطيًا في فلسفته، حيث اعتمد على الفرضيات والتفكير العقلاني بدلاً من التجربة الحسية كمصدر للمعرفة. هذا المنهج شكل بداية لتوجه جديد في الفلسفة، حيث أصبح العقل هو المصدر الأساسي لفهم الوجود.