إن الجدل في الماركسية يختلف عنه عند هيغل. وليس من الادعاء أو الافتراء أن نتحدث عن جدل مستقل الحدود، مميز الطابع، يحمل اسم "الجدل الماركسي". فالجدل الماركسي يتميز بخصائصه الخاصة التي تجعله مختلفًا عن الجدل الذي ابتكره هيغل.
الجدل بين هيغل و الماركسية |
من الموضوعات التي دار حولها الحديث في الآونة الأخيرة هو تأثير هيغل على المذهب الماركسي. وكالعادة، كان "الجدل" محور هذا النقاش، حيث يُعترف بأن تأثير هيغل في الماركسية هو حقيقة مشهودة لا ينكرها أحد. حتى الماركسيون أنفسهم يعترفون بذلك، مما يجعل هذا التأثير جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الفكري لكلا الفيلسوفين.
لكن البعض بالغ في تضخيم أثر هيغل على الماركسية، مدعيًا أن الجدل الماركسي ليس سوى نسخة مطابقة لجدل هيغل. وفقًا لهذا الرأي، لا يمكن للماركسية أن تدعي الابتكار أو التفرد في هذه الناحية، وأنها مجرد امتداد لهيغل في إطار الجدل.
تاريخ الجدل
- قد لا نكون بحاجة إلى التنويه إلى أن موضوع الجدل أقدم في تاريخ الفلسفة من هيغل قِدم نشأة الفلسفة نفسها. فزينون الإيلي (490 - 430 ق.م) هو أول من استخدم الجدل في الفلسفة، وقد وصفه أرسطو بأنه مخترع الجدل.
- بعد زينون، أصبح الجدل موضوعًا وأسلوبًا من أساليب التفكير الفلسفي، وتناولته أيدي كثيرة وتقلب على وجوه شتى حتى انتهى إلى هيغل في عصرنا الحديث.
لم تكن كلمة هيغل في الجدل بالطبع الكلمة الأخيرة، فقد ظل موضوع الجدل مطروحًا في الفلسفة من بعده. وما زال الفلاسفة حتى اليوم يتناولون أمره ويختلفون في أحكامهم، ولن يتوقفوا عن ذلك طالما بقيت الأفكار على تقدمها وتجددها.
وكما أن هيغل لم يكن رائدًا للفكر الجدلي، كذلك لم يكن رائدًا للمنهج الجدلي، كما يوهم البعض الذين يقرنون المنهج الجدلي باسم هيغل وكأنه مبتكره أو كما لو لم يكن في الفلسفة غير منهجه
- الحقيقة أن أفلاطون هو رائد المنهج الجدلي ومؤسسه، والمطلعون على فلسفته يعلمون أن هذا المنهج عند أفلاطون يقوم على حركتين.
- الأولى صاعدة من المحسوسات الجزئية إلى المعاني الكلية أو المثل.
- الأخرى هابطة من المثل إلى المحسوسات.
- وكان لهذا المنهج أثر واضح على أوغسطين (353 - 430م)، كما كان له أثر بالغ القوة على أفلوطين السكندري (205 - 270م) وغيره من ممثلي التيار الفلسفي المعروف باسم الأفلاطونية المحدثة، وهو التيار الذي ظل ممتدًا حتى نهاية العصور الوسطى.
وقد أصاب هذا المنهج على أيدي هؤلاء الأفلاطونيين المحدثين الكثير من ألوان التطور حتى انتهى إلى مرحلة نستطيع القول أن المنهج الجدلي الهيغلي قد بدأ من عندها.
- هذا بالنسبة للجدل في تاريخ الفلسفة عمومًا. أما في العصر الحديث، فلم يكن هيغل كما هو مستقر في بعض الأذهان رائد الجدل الأول، بل كان كانط هو صاحب هذه الريادة.
كانط هو الذي أعاد الجدل إلى النور وأبرز دوره بعد أن غلب عليه الإهمال زمنًا في دائرة البحث الفلسفي. ويعترف بذلك هيغل نفسه، حيث يقول في كتابه "موسوعة العلوم الفلسفية": "لقد كان كانط هو الذي أخرج الجدل من عالم النسيان ليعطيه الأهمية التي يستحقها".
- هيغل ليس سوى حلقة متأخرة في تاريخ الفكر الجدلي الطويل، كما أنه يمثل الحلقة الثانية لهذا التاريخ في العصور الحديثة.
- منهجه الجدلي ليس سوى واحد من بين عدة مناهج جدلية احتوتها الفلسفة على مر العصور، أي إنه لا يتمتع بفضل ريادي على الجدل سواء كموضوع أو كمنهج.
- حقيقة أن هيغل جاء بفكرة يُقال لها جديدة في الجدل، ولكن هذا لا يغير شيئًا مما قلناه. فكثير من الفلاسفة جاءوا قبله بأفكار جديدة عن الجدل، ومنهم سقراط وأرسطو وفلاسفة الرواقية، ومع ذلك هناك اختلاف واضح بين أدوارهم المجددة في الجدل وبين أدوار الريادة التي قام بها من أنشأوا الجدل أو من جعلوه علمًا ومنهجًا أو من بعثوه إلى الحياة بعد موات.
قد يرهف البعض سمعه إلى نغمة الانتقال من النقيض إلى النقيض التي شاعت بين الفلاسفة منذ أن أطلقها هيغل، فيظهر له الأمر غامضًا ويعطي لهيغل قدرًا يفوق حجمه الحقيقي في عالم الفكر الجدلي بناءً على هذا الأثر الذي خلقه.
إلى هؤلاء نقول: فكرة أرسطو (384 - 322 ق.م) عن الجدل، وهي اعتباره فنًا للاحتمال يقوم على مقدمات محتملة الصدق، قد عمرت دون تغيير يُذكر إلى ما بعد ديكارت (1596 - 1650)، بل كان صداها حاضرًا في جدل كانط. فقد عمرت هذه الفكرة أكثر من واحد وعشرين قرنًا، بينما الفاصل الزمني بيننا وبين جدل هيغل لم يبلغ بعد قرنين من الزمان.
جدير بالذكر أن الجدل المعاصر قد ابتعد عن فكرة النقائض، وأصبح معناه يقتصر على "الفكر الذي لا يقنع بالوقوف عند حد معين". إذن، لماذا كل هذا الاهتمام بجدل هيغل على وجه الخصوص؟
نستطيع أن نرد ذلك إلى عاملين:
- الأول، أن هيغل أقام فلسفته كلها على أساس فكرته الجدلية، وهذه أول حالة من نوعها في تاريخ الفلسفة.
- الثاني، أن الماركسية تبنت هذا الجدل أو تأثرت به، مما كفل له الشهرة العريضة وأهميته الكبيرة كحركة اجتماعية عظيمة النفوذ.
الصيرورة والتناقض في فلسفة هيغل
وتنتقل الآن إلى فكرة هيغل عن الجدل. وقبل أن نحدد معنى الجدل عند هيغل، علينا أن نشير إلى نقطتين جوهريتين في فلسفته، وهما بمثابة الأساس لفكرته الجدلية.
- النقطة الأولى هي أن الفكر صيرورة، أي حركة وتغير دائم.
- أما النقطة الثانية، فهي أن أساس هذه الصيرورة - أو بالأحرى القوة التي تولدها - هو التناقض الكامن في كل فكرة أو مرحلة فكرية.
كما هو معروف، كان منطق الفكر عند هيغل يمثل منطق الأشياء. بناءً على ذلك، يمكننا أن نصوغ هاتين النقطتين صياغة أخرى على النحو التالي: الوجود صيرورة، وأساس هذه الصيرورة هو التناقض الكامن في صميم الوجود وفي صميم كل جزء منه.
من هنا نصل إلى معنى الجدل عند هيغل، وهو التأليف أو التركيب بين المتناقضات. أما المنهج الجدلي الذي يتضمن هذا المعنى، والذي ذهب هيغل إلى أن حركة الوجود بأسره تسير بمقتضاه، فيتألف من ثلاث مراحل هي:
- الموضوع (الإثبات)
- النقيض (النفي)
- التركيب (نفي النفي)
وفحوى العملية التي يتحقق بها هذا المنهج هي أن كل موضوع يتولد عنه نقيضه، ويدب الصراع بينهما.
من خلال هذا الصراع، يتولد نقيض للطرفين معًا، وهو بمثابة تركيب بينهما. هذا التأليف يمثل بدوره موضوعًا جديدًا يتولد عنه نقيض جديد، وهكذا تستمر العملية بلا توقف. والسؤال الآن: هل كانت هذه الفكرة جديدة حقًا؟ أو على الأقل، جديدة بالقدر الذي يصورها بعض الغلاة، وكأنها ابتكار خاص من هيغل؟
الحقائق تشير إلى خلاف ذلك.
تأثر هيغل بهيراقليطس
هيراقليطس، الذي يرجع زمنه إلى حوالي 2500 عام، تحدث عن التناقض الموجود في الطبيعة. له في هذا السياق عبارته المشهورة: "نحن موجودون وغير موجودين".
كانت فكرة الأضداد تمثل جانبًا رئيسيًا في فلسفته، حيث قال بأن الطبيعة مركبة من الأضداد، وأن كل شيء يشمل ضده ويحتويه. كما أشار إلى أن الأشياء لا تثبت أبدًا على حال واحدة، بل هي دائمًا في حالة انتقال من الضد إلى ضده.
هيراقليطس تحدث أيضًا عن الصراع بين الأضداد، وقال إن التغير، الذي يمثل ناموس الوجود، يتولد عن الصراع بين هذه الأضداد. وقد تحدث كذلك عن اجتماع الأضداد وائتلافها، مشيرًا إلى أن وحدة الوجود تقوم على اجتماع الأضداد التي يتألف منها هذا الوجود.
ويعقب برتراند راسل على فكرة امتزاج الأضداد عند هيراقليطس، ويقول: "هذا المذهب يتضمن جرثومة فلسفة هيغل، التي تبدأ بالتأليف بين الأضداد".
كان هيغل نفسه يعترف بتأثره بهيراقليطس، وأقر بفضل الأخير عليه في فلسفته الجدلية. كما يقول ب. كروس في كتابه "ماذا بقى وماذا اندثر من فلسفة هيغل": "كان هيغل يقول إنه لم يجد إثباتًا من إثباتات فلسفة هيراقليطس إلا وأدخله في منطقه الخاص".
التأثيرات الأخرى على هيغل
يمكن أن نجد فكرة الصراع بين الأضداد أيضًا لدى فلاسفة يونانيين آخرين، خاصة أفلاطون، الذي كان يركز على خصوبة هذا الصراع.
فقد كان الفلاسفة اليونانيون يؤمنون بأن الأضداد تتوالد بعضها عن بعض. وفقًا لــبوليتزير في كتابه "المبادئ الأساسية للفلسفة"، فقد كانوا يرون أن هذا الصراع يثري الفكر الفلسفي.
أما أفلوطين، فقد تبنى الفكرة المجردة المسماة بـ"الواحد"، والتي اعتبرها الموجود الأول. ترتب على وجود هذه الفكرة وجود العالم المادي، وكما يشير بول فولكييه: "نجد في هذا الفكرة ونقيضها اللذين سيعبر عنهما هيغل بوضوح: القضية هي وحدة الوجود، والنقيض هو تعدده".
بأجتياح التيار الأفلاطوني الحديث لألمانيا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، تطور المنهج الجدلي بين الفلاسفة الدومينيكيين، ليقترب بشكل كبير من جدلية هيغل.
هذا ما يظهر بوضوح في فلسفة جان إكهارت، الذي كان يستخرج من الإثباتات نقائضها، ثم يعود فيؤلف بينها. يصف فولكييه نظام إكهارت الفلسفي بأنه "بشير بنظام هيغل".
ويضيف: "نستطيع عرض مذهبه وفق الثالوث الجدلي لهيغل: الموضوع - النقيض - التأليف".
وفي القرن التالي، نجد نيقولا دي كوزا (1401-1450)، الذي عرض فكرة التأليف بين الأضداد بوضوح. فقد أقر بوجود الأضداد في الوجود، وأشار إلى أن هناك حالة تتوافق فيها هذه الأضداد وتتألف، وبإمكان الإنسان إدراكها عن طريق الحدس.
كانت وفكرة الجدل
في القرن الثامن عشر، عادت فكرة الجدل إلى الظهور على يد كانت، الذي رغم تأثره بالمعنى السلبي الذي وضعه أرسطو والسفسطائيون للجدل، استخدمه بطريقة فعالة في معالجة تناقضات الفكر.
يُعتبر كانت من أوائل من ربطوا الجدل بموضوع التناقض في العصر الحديث، وكان من المصادر التي ألهمت هيغل بفكرة الثالوث الجدلي.
لاحظ هيغل أن كانت، في دراسته للمقولات، كان ينظمها بحيث يظهر الطرف الثالث كعملية تأليفية بين الطرفين الأولين، وهي الفكرة التي اعتمد عليها هيغل في جدليته.
حتى في عصر هيغل نفسه، نجد أن الثالوث الجدلي كان مستخدمًا في فلسفتي معاصريه مثل فخته وشلنغ، حيث استخدماه كإطار لنظرياتهما الميتافيزيقية.
خلاصة لما سبق
- من خلال ما سبق، نجد أن هيغل لم يكن مبتكرًا أو رائدًا لفكرة الجدل المقرونة باسمه. بل كانت عناصر هذه الفكرة معروفة ومتداولة منذ فترة طويلة.
كما يقول بول فولكييه: "هيغل لم يخترع مطلقًا الثالوث: موضوع - نقيض - تأليف"، ويضيف: "لم يفعل صاحب فلسفة التناقض شيئًا سوى إبراز الأفكار التي انتشرت منذ زمن طويل، وأقام مذهبًا كاملاً عليها".
- إذن، فالمنهج الجدلي الحديث ليس اكتشافًا هيغليًا بقدر ما هو ليس اكتشافًا ماركسيًا.
ولعل أولئك الذين ينسبون فضل الجدلية إلى هيغل في إطار الماركسية يجب أن يعوا هذه الحقيقة جيدًا.
كما يجب أن يفهموا أنه لو كان من شروط الفيلسوف أن يخلق من العدم، لما وجدنا في تاريخ الفلسفة رجلاً واحدًا يستحق هذا الوصف.
فما من فكرة جديدة إلا وكانت مستوحاة من فكرة قديمة، سواء كانت مؤيدة لها أو معارضة. وما من فلسفة جديدة مهما كانت، إلا وتضرب جذورها في أعماق الماضي، وتحمل بصمات الفلاسفة والمفكرين من كل عصر ومذهب.
الماركسية والجدل الهيجلي
ماذا فعلت الماركسية بالجدل الهيجلي؟ هل تقبلته كما تركه صاحبه، أو نقلته (نصًا وروحًا) على حد تعبير البعض؟ إن هناك عبارة مشهورة قالها ماركس وإنجلز تصف الإجراء المباشر للماركسية مع جدل هيجل، أو بتعبير آخر، تصف العملية التي تم بها تبني الماركسية للجدلية الهيجلية، وتلك هي: (قلب الجدل الهيجلي).
ونجدنا مضطرين إلى عرض تفصيل هذه العملية بعدما برز من يدعي أن هذه العبارة جاءت عرضًا على لسان ماركس فلا تعني مدلولها الظاهر.
ولن يخرج هذا العرض عن ذات النطاق الذي استخدم فيه هذه العبارة ماركس وإنجلز. يقول كارل ماركس: "إن منهجي الجدلي لا يختلف عن المنهج الجدلي لهيجل من حيث الأساس فحسب، بل هو ضده تمامًا.
يكمل ماركس قائلًا: فحركة الفكر، هذا الفكر الذي يشخصه هيجل ويطلق عليه اسم (الفكرة)، هي في نظره خالق الواقع وصانعه، وما الواقع في اعتباره إلا صورة الفعل لهذه الفكرة. أما في رأيي، فعلى العكس من ذلك، ليست حركة الفكر سوى انعكاس الحركة الواقعية المنقولة إلى الذهن البشري ومتحولة فيه.
ثم لا يلبث ماركس أن يضيف إلى ذلك: "فالجدل عند هيجل يسير على رأسه، ويجب أن نعيده على قدميه إذا أردنا أن نكتشف نواته العقلية، من خلال غلافها الصوفي" (المصدر: رأس المال، ج 1، ص 22، 23، في مقدمة الطبعة الألمانية الثانية).
ويُوضح فردريك إنجلز عملية قلب الجدل الهيجلي في تفصيل أكثر فيقول: إن التطور الجدلي - عند هيجل - الظاهر في الطبيعة والتاريخ، أي التسلسل العلوي لحركة التقدم من الأسفل إلى الأعلى، هذا التطور الذي يحقق ذاته خلال كل الحركات المتعرجة والتراجعات المؤقتة، ما هو إلا انعكاس للحركة الذاتية للفكرة، وهي الحركة المستمرة أبدًا، ولا أحد يدري في أي مكان، ولكنها على كل حال مستقلة عن أي ذهن إنساني مفكر.
هذا الوضع الإيديولوجي المعكوس هو ما أردنا إزالته. ففي اعتبارنا، ومن جهة النظر المادية، أن الأفكار التي تحتويها رؤوسنا عبارة عن صور للأشياء الواقعية، لا أن هذه الأشياء صور لهذه المرحلة أو تلك من مراحل الفكرة المطلقة.
ومن هذا الاعتبار، تحول الجدل إلى علم القوانين العامة للحركة، سواء للعالم الخارجي أو للتفكير الإنساني - أي تحول إلى سلسلتين من القوانين تتطابق في الجوهر وتختلف في التعبير، بحيث يستطيع العقل الإنساني أن يطبقها عن وعي، بينما لا يمكنها في الطبيعة، كما لم يمكنها في الجزء الأكبر من التاريخ الإنساني المنصرم، أن تسير إلا بطريقة غير واعية، أي في صورة الضرورة الخارجية، وخلال سلسلات لا نهاية لها من أحداث تبدو من قبيل المصادفات.
ومن هنا يصبح جدل الأفكار ذاته مجرد انعكاس واعٍ لجدل الحركة في العالم الواقعي. وهكذا نكون قد قلبنا جدل هيجل وجعلناه يقف على قدميه بعد أن كان واقفًا على رأسه" (مختارات ماركس وإنجلز، مجلد 2، ص 385، 386).
رأينا كيف جاءت عبارة قلب الجدل الهيجلي في أقوال ماركس وإنجلز نتيجة لمقدمات كان من الطبيعي أن تؤدي إلى ذكرها.
ونضيف إلى هذا أن الماركسية، بهذا القلب، قد خرجت بالجدل من مفهومه الهيجلي، ووضعت الأساس لجدل مستقل عن الجدل الهيجلي. لذا، لا تخرج عن حدود الحقائق المقررة أن تدعوه بالجدل الماركسي. وليس من شأن عملنا الآن أن نبحث في الجدل الماركسي كموضوع قائم بذاته.
إنما الذي يهمنا في هذا المقام هو بيان مدى استقلال هذا الجدل عن الجدل الهيجلي، واستحقاقه لتلك التسمية الخاصة التي تطلق عليه، وهي (الجدل الماركسي). ولهذا الغرض، نستعرض الآن وجوه الاختلاف بينه وبين جدل هيجل:
1- الجدل عند هيجل مصدره الفكر، وإذا كان يتحكم في المادة أيضًا، فلأن هذه المادة وحركتها انعكاس للفكر وحركته.
الأمر على عكس ذلك في الماركسية، فمصدر الجدل في مذهبها هو المادة، ووجوده في الفكر إنما يرجع إلى أن الفكر وحركته انعكاس للمادة وحركتها. وهكذا ترى الهيجلية والماركسية تقفان على طرفي نقيض في تحديد مصدر الجدل.
2- قوانين الجدل عند هيجل قوانين منطقية تسير بمقتضاها (الفكرة)، وتعكسها في كل ما يتولد عنها من أشياء طبيعية، وحياة إنسانية، ومؤسسات اجتماعية.
بينما هي في الجدل الماركسي قوانين مادية كائنة في صميم المادة، مستقلة عن أي عامل فكري أو خلافه، وتسير بمقتضاها حركة الواقع المادي. سواء في الطبيعة الخارجية أو في المجتمع الإنساني، كما تنعكس في الفكر الإنساني وكافة أيديولوجيات الحياة الإنسانية من حيث أن هذه الأشياء مجرد انعكاسات للظروف المادية.
وبهذا وحدت الماركسية بين الجدل والمادة، وأنشأت ما هو معروف باسم ((المادية الجدلية)). وقد عبر بردياتيف عن الخروج الصارخ للجدل بهذا التوحيد عن مفهومه الهيجلي بقوله: "وهذا التوحيد بين الجدلية والمادية لابد أن هيجل قد ارتعش منه في تابوته" (المسيحية وصراع الطبقات، ص ٤٨). والواقع أن هذا العامل وحده يكفي كل الكفاية للتفرقة بين جدلي ماركس وهيجل. فالجدل الماركسي بصفته جدلًا ماديًا يختلف عن جدال هيجل المثالي اختلاف المادية عن المثالية.
3- المنهج الجدلي عند هيجل مرتبط بالفكرة ارتباطًا كليًا، وخطواته منذ أن بدأ يخطو عبارة عن ارتقاء بالفكرة وتقدم بها نحو غايتها المنشودة، وهي الكمال.
فهو لا يعدو كونه مجرد عملية تؤدي بالفكرة إلى بلوغ كمالها - أي وعيها بذاتها - وهو بهذه الصفة إنما يكون في حقيقة أمره منهجًا خاصًا بالفكرة، ومن ثم يصطبغ بالذاتية. بينما هذا المنهج عند الماركسية عملية موضوعية لا تسير في ركاب شيء بالذات، بل تتحقق تحققًا حرًا لا ارتباط فيه بغابة ولا بهدف. فالمنهج الجدلي عند الماركسية يوجد وجودًا موضوعيًا ويسير سيرًا موضوعيًا.
4- المنهج الجدلي عند هيجل مغلق المستقبل بعد أن اتصل الفكرة إلى تحقيق غايتها، بل إنه يتوقف عن العمل نهائيًا حينئذ.
إذ لم يجعل هيجل الروح المطلقة - الفكرة التي وعت ذاتها - إثباتًا لنفي جديد، كما لم يجعل حركة التطور السياسي التي انتهت إلى الدولة البروسية تحتمل حركة جديدة أو تطورًا آخر، حيث اعتبر الدولة البروسية الغاية النهائية لحركة التطور في المجال السياسي.
وهو بهذا قد خنق - على حد تعبير البعض - المنهج الجدلي كما خنق معه مبدأ الصيرورة. أن الجدلية بهذه الصورة لا وجود لها في ظل الماركسية، فالجدلية عندها مفتوحة المستقبل على الدوام، لا تقف أبدًا عند مرحلة بعينها، ولو كانت الشيوعية.
5- الجدل عند هيجل يتناول الحقائق بصورة شاملة ويجري عليها منهجه بطريقة آلية سطحية.
لا تبدو معها طبيعة هذه الحقائق ولا تنجلي أسسها ومكوناتها، وبالتالي فهو يترك في طي الغموض طبيعة التناقض وطبائع المتناقضات التي تتضمنها هذه الحقائق. والأمر على العكس من ذلك تمامًا في الجدل الماركسي، إذ هو يتناول الحقائق من أجزائها، محاولًا تفهم طبائعها واستجلاء المبادئ الجدلية في أعماقها.
6- الجدل عند هيجل يدل على التأليف بين المتناقضات، بينما يدل عند الماركسية على الصراع بين المتناقضات.
وقد سبق أن عرفه إنجلز بتعريف لا مرد له عند هيجل ولا غيره وهو: "علم القوانين العامة للحركة". وإننا لو وضعنا بناءً على ذلك المبادئ الجدلية الماركسية في جانب، ووضعنا المبادئ الجدلية لهيجل في جانب مقابل، لوجدنا أوجه الاختلاف بينهما أكثر من أوجه التشابه، ولوجدنا أيضًا كلا منهما يتفرد عن الآخر بطابع خاص ونسق مستقل.
نوجز ما ذكرنا في هذه النقاط:
- مصدر الجدل:
- عند الماركسية: المادة.
- عند هيجل: الفكر.
- قوانين الجدل:
- في الماركسية: قوانين مادية تنعكس في الفكر.
- عند هيجل: قوانين منطقية تتعكس في المادة.
- المنهج الجدلي:
- عند الماركسية: موضوعي.
- عند هيجل: غير موضوعي.
- العملية الجدلية:
- في الماركسية: لا تتوقف عند غاية معينة أو مرحلة بالذات.
- عند هيجل: ينعدم أثرها بعد حد معين من التطور.
- طبيعة الجدل:
- عند الماركسية: تابع من ذات الحقائق واكتشافه يستلزم تفصيل هذه الحقائق واستجلاء أغوارها
- .عند هيجل: الجدل رداء تلتف به الحقائق ولا شأن له بطبيعتها أو خصائصها.
- مدلول الجدل:
- عند الماركسية: يدل على الصراع بين المتناقضات.
- عند هيجل: يدل على التأليف بين المتناقضات.
- مبادئ إضافية:
- الجدل الماركسي: يستبعد مبدأ التأليف بين المتناقضات ويضيف مبدأي ارتباط الجزء بالكل وعدم ثبات الحقيقة.
- الجدل الهيجلي: يعتمد على مبدأ التأليف بين المتناقضات ويفتقر إلى المبدأين السالفين.
الخاتمة:
أصبح من الواضح الآن أن الجدل عند الماركسية يختلف عنه عند هيجل، وأنه ليس من الادعاء أو الافتراء في شيء أن نتحدث عن جدل مستقل الحدود مميز الطابع باسم "الجدل الماركسي".