recent
أهم الموضوعات

البراغماتية: المنظور الأمريكي لتشكيل الحقيقة

نشأت البرغماتية بوصفها فلسفة عملية في الولايات المتحدة الأميركية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. يمكن القول بأن هذا المذهب جاء كردة فعل مضادة للاتجاهات الفلسفية المثالية التي كانت سائدة في ذلك الوقت.

الفلسفة البرغماتية
البرغماتية

كانت تلك الاتجاهات في معظمها تحمل أفكارًا مجردة، لم يتمكن أصحابها من تطبيقها في الواقع العملي، كما أنهم لم يستطيعوا إقامة أدلة قوية لدعم دعواهم.

معنى كلمة البراغماتية

البرغماتية في أصلها مأخوذة من الكلمة اليونانية "Pragma" وتعني العمل النافع أو المزاولة التي تعود بنفع ما. استخدمت الكلمة للدلالة على معانٍ عدة، إلا أن أول من استخدمها للدلالة على هذا المعنى النفعي في البرغماتية هو الفيلسوف الأميركي تشارلز بيرس.

ورغم أن لفظ البرغماتية، كما أسلفنا، مشتق من كلمة يونانية، إلا أن أول استعمال لهذا اللفظ في تاريخ الفلسفة يعود إلى الفيلسوف الفرنسي إيمانويل كانط الذي ميز في كتابه "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" بين براجماتيك وبين عملي.

  • فالأولى ربطها بالفن والصنعة، قاصدًا بذلك عمليتي اكتساب الخبرة والتجربة، أما ما هو عملي فكان يقصد به الجانب العملي من الإنسان، وهي الأخلاق.
  • أما الاستعمال الثاني للبراغماتية فهو يعود لتشارلز بيرس وقد استلهمه من كانط، لكن ليس بالمعنى الكانطي، بل عبر عنه بمبدأ أساسي في هذه الفلسفة، وهو أن كل مفهوم يكون حقيقيًا إذا كان له مدلول معين أو وجود الشيء يعني كونه نافعًا.

وكان أول تدشين للفظ البرغماتية في الفلسفة في سياق مقال للفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس بعنوان "كيف نجعل أفكارنا واضحة؟"، حيث ذكر فيه أنه لكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا من موضوع ما، فإننا لا نحتاج إلا إلى اعتبار ما قد يترتب من آثار يمكن تصورها ذات طابع عملي قد يتضمنها الشيء أو الموضوع.

وكان بيرس مبتكر البرغماتية في الفلسفة المعاصرة، يعمل محاضرًا آنذاك في جامعة هارفارد الأمريكية، وكان متأثرًا بدارون، وكان له تأثير كبير في الفلاسفة الأمريكيين.

وكان بيرس تجريبيًا مشبعًا بعقلية المعمل، اهتم بالتفكير المنطقي وطرائقه في إيضاح المدركات العقلية.

مؤسس مذهب البراغماتية

من خلال هذا المبدأ، شكل (بيرس) الأساس الأول للمذهب البراغماتي الذي نشط كفلسفة وكمنهج في الفكر الأمريكي، ابتداءً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر. لكن التأسيس الفعلي للبراغماتية كمذهب لم يكن فقط على يد تشارلز بيرس، بل أيضًا على يد وليام جيمس وجون ديوي.

المؤسس الفعلي لمذهب البراغماتية الذي أرسى قواعده وقنن أفكاره هو الأمريكي وليام جيمس. وهناك طائفة أخرى من الفلاسفة البراغماتيين، أمثال جون ديوي وآخرين، كما سنرى لاحقًا في هذا المقال.

ما هي البرغماتية؟ ومن هو الشخص البرغماتي

المقصود بالبراغماتية هو المذهب العملي أو المذهب النفعي. عُرفت في المعجم الفلسفي بأنها مذهب يرى أن معيار صدق الآراء والأفكار إنما هو في قيمة عواقبها عملًا، وأن المعرفة أداة لخدمة مطالب الحياة، وأن صدق قضية ما هو كونها مفيدة. والبراغماتي بوجه عام هو وصف لكل من يهدف إلى النجاح أو إلى منفعة خاصة.

أما الفلسفة البراغماتية فهي تصور العصر العلمي الذي نعيش فيه اليوم بصفة عامة، وتصور الحياة العملية التي يعيشها الأمريكيون في دولتهم الصناعية الحديثة بصفة خاصة.

الفلسفة البراغماتية

ومن ناحية تاريخ الفكر، فالمصطلح يشير إلى تلك الحركة الفلسفية التي ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وارتبطت بأسماء الفلاسفة الأمريكيين بيرس ووليام جيمس وجون ديوي .

تتمركز فلسفة البراغماتية حول مقولة مؤداها: "لا يمكن التوصل إلى معاني الأفكار، ومن ثم لا يجب تفسيرها، إلا بالنظر إلى النتائج المترتبة عليها، كما أنه لا يمكن تحديد المعتقدات أو تبرير التمسك بها إلا بالأخذ في الاعتبار النتائج العملية المترتبة على الإيمان بهذه المعتقدات".

الحقيقة - وفقًا للنظرية البراغماتية

الحقيقة إذن ثانوية إذا ما قورنت بالممارسة العملية. ذلك أن الحقيقة، وفقًا للنظرية البراغماتية، ما هي إلا الحل العملي والممكن لمشكلة ما. كما أن المبرر الوحيد للإيمان بأي شيء هو أن التمسك به والعمل وفقًا له يجعل الفرد في وضع أفضل مما لو لم يتمسك به.

تتميز البراغماتية بالإصرار على النتائج والمنفعة والعملية كعناصر أساسية للحقيقة. وتعارض البراغماتية الرأي القائل بأن المبادئ الإنسانية والفكر وحدهما يمثلان الحقيقة بدقة، معارضةً مدرستي الشكلية والعقلية من مدارس الفلسفة.

أما بصورة أوسع، فالمصطلح يستخدم للإشارة إلى أي مدخل يركز بالأساس على ما يمكن عمله في الواقع، لا على ما يجب عمله بالنظر إلى عالم المثاليات.

البراغماتية: التركيز على النتائج ونسبيّة الحقيقة

فالبراغماتية بدلاً من أن تركز على مقدمات الأفكار، تركز على النتائج المترتبة على تلك الأفكار. فهي توجه نحو الاهتمام بالأشياء النهائية وبالنتائج. ومن ثم، هي لا تعني بالسؤال عن ماهية الشيء أو أصله، بل عن نتائجه، فتوجه الفكر نحو الحركة ونحو المستقبل.

كما أن البراغماتية لا تعني بالنظر إلى مبادئ الأمور، ولا تبحث عن أسباب نشأتها ولا إلى ماذا سيكون مصيرها، بل تعنى فقط بالنتائج الفعلية النافعة المترتبة على تلك الأمور.

ولكن هذا المعنى الظاهري الفضفاض ربما يكون محاولة لإخفاء جوهرها، القائم على قياس كل عمل أو شيء أو حالة، بما تحققه من فائدة أو ضرر. فالشيء جيد وصالح إذا كان نافعا، وهو سيئ إذا كان ضارًا.

والمشكلة هنا هي أن من يقرر الفائدة والضرر هو الشخص المعني، معتمدًا على معاييره الخاصة كأداة لتقويم الأعمال والأشياء.

ومن ثم، يفقد الشيء خصائصه الموضوعية؛ مثلاً الحق يصبح نسبيًا حسب الشخص المتعامل معه، وليس حالة تحددها عوامل موضوعية، ويصبح عرضة لثقافة ومزاج ومصالح ونوعية قيم الشخص ذاته.

معيار الحقيقة عند البراغماتيين

وبعد بيرس، مبتكر البراغماتية، ذهب فيلسوف أمريكي براجماتي آخر هو ويليام جيمس إلى أن المنفعة العملية هي المقياس لصحة أي شيء. ويرى جيمس أن مصطلح البراغماتية يعني المزاولة والعمل، والطابع الذي ألبسه جيمس للبراغماتية هو الطابع النفعي، فكان يتعامل مع مصداقية الأفكار من منطلق القيمة الفورية.

وكان يقول: إن الفكرة كورقة النقد تظل صالحة للتعامل إلى أن يعترضها معترض ويثبت زيفها وبطلانها. وتستمر مصداقيتها ما دامت سارية المفعول فنحقق بها ما نريد من أغراض.

وبنى جيمس مذهب البراغماتية على أصول أفكار بيرس، ويؤكد أن العمل والمنفعة هما مقياس صحة الفكرة ودليل صدقها. ويقول جيمس عن البراغماتية: إنها تعني الهواء الطلق وإمكانيات الطبيعة المتاحة، ضد الموثوقية التعسفية واليقينية الجازمة والاصطناعية وادعاء النهائية في الحقيقة بإغلاق باب البحث والاجتهاد.

وهي في نفس الوقت لا تدعي أو تناحر أو تمثل أو تنوب عن أية نتائج خاصة، إنها مجرد طريقة فحسب، مجرد منهج فقط.

وظيفة العقل في البراغماتية

ذهب فيلسوف أمريكي براغماتي آخر هو جون ديوي إلى أن العقل ليس أداة للمعرفة، وإنما هو أداة لتطور الحياة وتنميتها. فليس من وظيفة العقل أن يعرف، وإنما عمل العقل هو خدمة الحياة.

ويمكن القول إن الأجيال المتأخرة من المهاجرين الرواد ورثت الجرأة والإقدام والاعتماد على النفس، وحب المغامرة والتحرر من التقاليد، وتوظيف العقل في تطويع الطبيعة. كما اعتبرت أن التقدم المنجز والنجاح المادي الملموس دليلاً واضحاً على صحة السبل والوسائل التي يتبعونها، وهذه السمة تمثل جوهر الفلسفة البراغماتية.

وقد أثارت التركيبة السكانية للولايات المتحدة الأمريكية جدلاً متعمقاً حول المفاضلة بين الأجناس التي كوّنتها، وقدرة البوتقة الأمريكية على صهر وتحليل هذه الأجناس واستيعابها، وإخراج عجينة أمريكية جديدة وسليمة ديموغرافياً واقتصادياً وسياسياً.

من هذه العجينة نشأ جيل جديد ترك خلفه نقائصه وعيوبه، وراح يعمل وفق قواعد جديدة، بعيداً عن الكسل والفراغ، والاستسلام للفقر والعبودية. في ظل هذا المجتمع الجديد، نشأت البراغماتية التي تؤمن بأن ظروف الحياة يمكن تحسينها بالتصميم على العمل المستنير بالعقل، وأن المثل الأخلاقية فارغة وعقيمة إذا انفصلت عن وسائل تحقيقها، وأن الحقيقة ليست ثابتة بل هي في تغيير دائم، وأن الإنسان قادر على إعادة تشكيل الظروف بعزمه وإرادته.

العوامل الممهدة للبراغماتية

يجدر القول إن ظهور الفلسفة البراغماتية سبقته عوامل اقتصادية واجتماعية ساهمت في بزوغها.
الأمريكيون ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم نسخة من القارة الأوروبية، وهذا واضح بالتأكيد. فقد حصلت هجرة واسعة من قارات عديدة، وكانت أوروبا في طليعتها.

عند الحديث عن الفلسفة البراغماتية، يظهر أنها تمثل صورة نهائية عن الظروف التي عاشها المجتمع الأمريكي بعد الاكتشاف.
هذا الاكتشاف كان نتيجة الرغبة الأوروبية في البحث عن مصادر الثروة في بلدان جديدة غير معمرة. ومع ذلك، لم يكن البحث عن الثروات هو العامل الوحيد؛ فقد كانت هناك عزيمة قوية وحب استطلاع البحار واليابسة المجهولة من بين دوافع الاستكشاف.

تاريخ أمريكا ليس قديمًا؛ إذ لا يتجاوز أربعة قرون، وابتدأ مع موجات الهجرة إليها.
المهاجرون كانوا يبحثون أساسًا عن مصادر الثروة، معتمدين على القوة المادية للسيطرة على الطبيعة. فقد استخرجوا الزرع والمعادن واستغلوا الثروات الطبيعية باستخدام العقل البشري والوسائل المتاحة.

كانت الوسائل الأساسية لتحقيق النجاح تشمل الاعتماد على النفس، التحرر من التقاليد، وحب المغامرة.
استخدم هؤلاء المهاجرون العقل البشري للسيطرة على الموارد الطبيعية، مع احترام العمل اليدوي لكسب العيش. كان الهدف الأساسي هو كسب أكبر قدر من الربح المادي، وهو ما يشكل جوهر الفلسفة البراغماتية.

هذا المبدأ ليس محصورًا فقط على الفلسفة البراغماتية، بل كان موجودًا قبل نشأتها.
خير مثال على ذلك ما ذكره أحد الكتاب المصريين الذي عاش مع أسرة أمريكية ثرية:
"الصبي إذا طلب شيئًا، قال له أهله: إذن عليك بغسيل السيارة كل أسبوع ونعطيك كذا دولارًا، أو عليك بغسيل زجاج النوافذ والأبواب، أو اذهب إلى نادي التنس القريب، حيث يحتاجون إلى أولاد يجمعون الكرات التي يلعب بها اللاعبون. مهما كان حظ أسرته، لا بد أن يعرف أن للدولار قيمة، وأنه يمكنه الاستمتاع بقدر ما يعمل ويكسب.

سمات المجتمع الأمريكي "البذرة المناسبة للبراغماتية"

وازدهار هذه الفلسفة في أمريكا يفسر بوضوح جوهرها، فأمريكا ليست دولة ذات هوية قومية كفرنسا وإيطاليا مثلاً، بل هي ملاذ لتجمعات مهاجرين تركوا بلدانهم الأصلية من أجل الرزق، أو تم نفيهم إليها من السجون التي اكتظت بالمجرمين، أو من الهاربين من الاضطهاد الديني.

لذلك كان طبيعياً أن تختلف، بل وتتناقض ثقافاتهم ودوافعهم. وهنا برزت أهمية وجود فلسفة تلبي رغباتهم المختلفة، فازدهرت البراغماتية لأنها تخاطب، وتستجيب للمصلحة الفردية وتمنحها غطاء المشروعية الذاتية.

ويُعد الفكر الفلسفي الأمريكي نسيجاً من خامات متعددة مستوردة من مختلف أصقاع العالم. حمل بذورها أناس رحلوا عن بلدانهم باحثين عن الثروة والحرية. ويمثل هؤلاء الناس شريحة منتقاة من المتعلمين والمغامرين والرأسماليين.

حمل هؤلاء معهم، ضمن ما حملوا، أفكاراً تبشيرية وتأملات دينية ونبوءات توراتية وفنوناً وفلسفات متنوعة. كل هذه وغيرها لعبت أدواراً مهمة في تشكيل الفكر الأمريكي.

أولًا: العوامل الاجتماعية

  • في خلال هذا الأسلوب في الحياة، تصبح من خلاله القيم مادية تماما، فيظل الأمريكي منحصرا بحاضره وبالقدر الذي جناه من الدولارات في يومه، فيذكرنا هذا ثانية بالروح البراغماتية. هذه الروح قلنا عنها سابقا: إنها مرتبطة ارتباطاً أساسيا بالتطور الاجتماعي وكذا الاقتصادي لأمريكا.

  • ومن أهم السمات التي رسمت الرجل الأمريكي في الميدان الاجتماعي، أنه هاجر إلى هذا البلد حاملا معه مبدأ الفردية المتشددة، بمعنى أن يهتم بنفسه فقط بغض النظر عن أي اهتمام بالآخر.

هذه النزعة ظهرت جلية في الرجل الأوربي المهاجر أو الأمريكي عندما نبذ الهنود الحمر السكان الأصليون لأمريكا بالسلاح والعنف، مؤمنا بمبدأ الأقوى هو صاحب الحق.

  • من ناحية أخرى، فقد تميز المجتمع الأمريكي بامتزاج ثقافي يذكرنا بذلك الامتزاج الحاصل في الفترة الهلينية من تاريخ الفلسفة عندما امتزجت الثقافات الفارسية والمشرقية وكذا اليونانية في ثقافة واحدة سميت بالثقافة الهلينية.

بل ما أثارنا أكثر هو : أن نفس مبادئ الفلسفة البراغماتية نجد مثيلتها في فلسفات خلال العصر الهليني وخير نموذج هو نموذج الرواقية ثم الأبيقورية، فكلا المذهبين يحمل نفس نظرة البراغماتية للعالم.

فيفضل العدد الهائل من المهاجرين، وكذا التنوع الحاصل في الأجناس ثم الثقافات بين آسيا وأروبا ثم أفريقيا، تشكلت ثقافة واحدة ستولد لاحقا فلسفة اسمها البراغماتية.

ثانيًا: العوامل الاقتصادية

وفي الحديث عن هذه الظروف الاجتماعية لا تنفك عن الحديث عن الظروف الاقتصادية أيضًا. لذا نقول: إن أمريكا بلد صناعي بالدرجة الأولى، فمنذ اكتشافها والرجل الأبيض همه الوحيد هو امتلاك الطبيعة وتسخيرها لحاجاته الخاصة، فأصبح هذا التصنيع الملهم الأساسي بفكرة المنفعة في الميدان الفلسفي.

وقد أكسب ذلك كله الرجل الأمريكي خصوصية في التفكير، مكنته من امتلاك خصوصية في العمل، وهذا ما يظهر على التوجه الذي يسلكه المجتمع الأمريكي المعاصر. فالحروب التي تشنها أمريكا الآن ما هي إلا نتائج عملية للبراغماتية، فابتغاء المنفعة التي يلبسونها لباس الحقيقة قد ينتج عنه استعمال جُل الوسائل الضرورية لبلوغ تلك المنفعة.

يظهر هذا بكل وضوح في الحروب الأخيرة خاصة في منطقة الشرق الأوسط، منطقة الهلال الخصيب، المنطقة التي تمتلك الحقيقة أو المنفعة بالنسبة للأمريكيين.

إذن فالبراغماتية ليست فقط فلسفة تأملية نظرية بل غدت منهجا يعمل به في جل الميادين السياسية منها والاقتصادية وكذا الاجتماعية.

من ثمَّ هذا ما جعلنا نقر منذ البداية أن ( وليام جيمس) هو المؤسس الحقيقي لهذا المذهب، بحكم أن نظريته هي الأكثر استعمالا وشيوعًا، وهي متعلقة أساسا بالصدق بارتباط مع المنفعة، فأصبحت فلسفته ملموسة في الواقع المعاش، هذا الواقع أصبح مسيرا من طرف أمريكا التي تستعمل البراغماتية كمرجع فكري أساسي.

وقد شكّلت الفلسفة البراغماتية العقل السياسي الأمريكي، خاصة عندما تستلهم التجربة الواقعية باعتبارها خبرة إيجابية في التاريخ، تستطيع أن تبرز قيمها الإنسانية وإلهاماتها السياسية وأفكارها الكبرى .

لكن يظل المشكل الأساسي في ذلك، أنها صبغت رؤيتها للتاريخ بصفة التجزيئية التي ورطتها أحيانًا في سياسات خاطئة على منوال العراق، إزاء عدم تقديرها بشكل كاف لأهمية القوى المعنوية لدى الشعوب والتصور المبالغ فيه لدور القوة المادية، وقدرتها على إنتاج تواريخ جديدة ونظم مغايرة، وهي رؤية تنبع من قصر تجربتها التاريخية وصعودها الساحق السريع.

أهم أفكار ومعتقدات البراغماتية

  • أن أفكار الإنسان وآراءه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولا، ثم السير نحو السمو والكمال ثانيا.
  • إذا تضاربت آراء الإنسان وأفكاره وتعارضت، كان أحقها وأصدقها أنفعها وأجداها، والنفع هو الذي تنهض التجربة العملية دليلا على فائدته.
  • أن العقل خُلق أداة للحياة، ووسيلة لحفظها وكمالها، فليست مهمته تفسير عالم الغيب المجهول، بل يجب أن يتوجه للحياة العملية الواقعية.
  • الاعتقاد الديني لا يخضع للبيئات العقلية والتناول التجريبي الوحيد له هو آثاره في حياة الإنسان والمجتمع ؛ إذ يؤدي إلى الكمال، بما فيه من تنظيم وحيوية.
  • النشاط الإنساني له وجهتان فهو عقل، وهو أداة، ونموه كعقل ينتج العلم وحين يتحقق كإرادة يتجه نحو الدين؛ فالصلة بين العلم والدين ترد إلى الصلة بين العقل والإرادة.
  • العالم متغير باستمرار، ويعد الوصول إلى حقيقة الكون وكيفية وجوده أمرًا بعيد المنال.
  • يُعد كل فرد جزءا من المجتمع، وله دور معين فيه.
  • تنظر إلى الحقيقة أنها غير مطلقة، وتضع ثقتها في قدرة الإنسان على المساهمة الفاعلة في بناء المجتمع وتطويره، وحل المشكلات التي تواجهه، أو التخفيف من حدتها على الأقل.
  • لا تؤمن بوجود قوانين أخلاقية مطلقة، وما يصدر من أحكام يعتمد على نتيجة تطبيق هذا الشيء من ناحية، والنفع أو الفائدة من ناحية أخرى.
  • ترى أن طبيعة الإنسان متكاملة؛ فعقله وجسمه ومشاعره ليست أجزاء منفصلة بل هي خصائص لعضو متكامل، وأن كل فرد له طبيعته وشخصيته الخاصة به.
  • أن الفكرة لا بد أن تكون قابلة للتنفيذ، وأن يكون لدينا اعتقاد بإمكانية تطبيقها - فعلا، وأن الفكرة أو القضية التي ليست لها نتائج عملية أو تأثير في السلوك هي قضية أو فكرة لا وجود لها.
  • أن المنهج البراغماتي لا يهتم بمصدر الأفكار، ولا بكيفية ظهورها، وإنما يهتم بنتائجها العملية المؤثرة على السلوك والحياة.
  • الفكر البراغماتي ينطلق من المستقبل متجاهلا الماضي، وجاعلا الحاضر لحظة إعداد؛ لتحقيق برنامج نصنعه للمستقبل، فهو يُحدث قطيعة مع الماضي، ويرفض البحث في المبادئ الأولية، وفي كل أشكال المطلق.
  • العقل عند البراغماتية أداة لفهم العالم وتغييره، والنظريات الفلسفية وسائل تقود لإنجاز الأهداف المحددة في المستقبل.

البراغماتية والمبدأ التجريبي

ومع ذلك، فقد امتازت الفلسفة البراغماتية عن الفلسفات القديمة باهتمامها بالتجريب، والمبدأ التجريبي لتتبع النتائج وإدراك الوعي الواقعي، إلا أن هذا الامتياز ليس جديدا؛ فالمنهج التجريبي نشأ على أيدي علماء المسلمين، وتحديدا الفيلسوف والعالم الكيميائي جابر بن حيان.

وقد حققت الفلسفة البرغماتية إنجازات تتعلق بدفع تطور الفكر، وتحدي العجز والنظر للمستقبل وعدم التقوقع في غياهب الماضي.

انتقاد البراغماتية

ولكن هناك انتقادات توجه إلى البراغماتية، ومن أهمها أن البراغماتية لا تقدم لنا بحثًا إيجابيًا عن الحقيقة، إذ إنها مجرد منهج لاكتشاف الأفكار الخاطئة، أي التي ليست لها آثار عملية. وهذا منهج سلبي وليس إيجابيًا، لأنها لا تهدف إلا إلى استبعاد الأفكار الخاطئة التي لا تكون لها هذه الآثار العملية. والاستبعاد - كما هو واضح - منهج سلبي للكشف عن الحقيقة وليس إيجابيًا بحال من الأحوال.

كما يلاحظ بعض الباحثين ذلك الامتداد غير المشروع لفكرة المنفعة. فقد كان ويليام جيمس والبراجماتيون يفخرون باتساع أفقهم، ولكن الحقيقة أن هذه الروح الفضفاضة بلغت حدًا يؤدي إلى القضاء على كل معنى لكلمة "النافع" عندما كانوا يعرفون الحقيقة عن طريق المنفعة. فالنافع في اللغة المتداولة هو ما يفي بحاجة حيوية، إلا أن البراجماتيين قد أضفوا على كلمة "الحاجة" معانيَ بلغت من الكثرة حدًا لم تعد معه تدل على شيء، حتى ولا كلمة "النافع" ذاتها.

فهناك حاجات ترمي إلى حفظ الحياة والعمل على استمرارها، ولكن من الممكن أن نطلق اسم "الحاجة" على ما يعبر عن أكثر الميول الوجدانية تنوعًا. فالمرء بحاجة إلى أن يكون محترمًا، محبوبًا، كما أنه بحاجة إلى أن يحب، وأن يرى من يحبهم سعداء. والغيورون الحاقدون بحاجة إلى أن يروا الآخرين تعساء وأقل سعادة منهم. والمرء بحاجة إلى الإيمان بوجود الله وخلود النفس.

كما أن هناك حاجات عاطفية وعقلية، كالحاجة إلى المعرفة والفهم. وهكذا نلاحظ أن "حاجات الإنسان والمنافع" التي تناظرها تبلغ من التنوع حدًا يجعل كل تعريف للحقيقة بالمنفعة ينتهي آخر الأمر إلى أنه لا يوضح من طبيعتها أي شيء.

ولا شك في أن الحقيقي نافع على نحوٍ ما، إلا أن ذلك لا يستتبع القول بأن المنفعة هي أساس لتعريف الحقيقة. فالحقيقي نافع لأنه حقيقي قبل أي اعتبار للمنفعة.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن المذهب البراغماتي يعرف الحقيقة بأنها ما يفي بالحاجة، غير أن أول ما نحتاج إليه عندما نبحث عن الحقيقة هو ألا نكون براغماتيين.

ومعنى ذلك أن القاعدة الأساسية التي نضعها عندما نشغل أنفسنا بالكشف عن الحقيقة هي أن نصرف كل اعتبار للمنفعة. ولو تطرق الشك إلى نفوسنا وآمنا بشيء لأننا بحاجة إلى هذا الإيمان، لفقد الإيمان إذن كل قيمة له.

ومرة أخرى نقول: إن الحقيقي نافع لأنه حقيقي، وليس حقيقيًا لأنه نافع. ولنتصور الحالة العقلية لمريض يقول لطبيبه: "لا تقل لي سوى ما أحتاج إلى تصديقه"، ألا يكون قوله هذا توسلاً إليه أن يكذب؟

وهكذا ينتهي الأمر بالبراغماتية إلى أن تكون نظرية "الأكذوبة الحيوية"، التي تقوم على أساس من نزعة الشك. إن جيمس ومعه بقية البراغماتيين يلعبون لعبة خاسرة مع الحقيقة، فهو يجعل من الحقيقة حقًا في الاستمرار في الاعتقاد بما ينفعنا، إنما يرفض مفهوم الحقيقة بأسره.

إن وضع الفكرة ذات النتائج المرضية مكان مفهوم الحقيقة يعني فتح الباب لأي خيال لذيذ. فماذا يمكن أن يرضي الإنسان أكثر من استمراره في الاعتقاد بأنه ذكي بينما هو في الواقع أبله؟

إن العالم مليء بكثير من السخف الذي يستشعر معه الإنسان قسطًا من المتعة. وإذا كان تقديم الأفكار يتم على أساس ما تؤدي إليه من نتائج عملية، فعند أي حد نستطيع أن نحكم على فكرة معينة بناء على هذا الأساس؟

فلو كان هناك شخص يعتقد أن الطريقة لحل مشكلاته الاقتصادية هي السيطرة على أحد البنوك، لكانت هذه الفكرة صحيحة أحيانًا لما يترتب عليها من نتائج عملية. إلا أن البراغماتيين يصرون على أن المرء لا بد أن يضع في حسبانه لا مجرد النتائج المباشرة التي تترتب على الفكرة، بل آثارها البعيدة أيضًا.

وهنا قد نقول: إننا لا نستطيع أن نعرف النتائج العملية لهذه الفكرة، ما دامت النتائج البعيدة قد تستمر إلى غير حد. فقد تعمل الفكرة بنجاح في وقت معين، ثم تفشل في وقت آخر، ثم تعود للنجاح بعد ذلك. ومعنى هذا أننا ينبغي علينا أن ننتظر بلا نهاية لكي نتمكن من تقييم نتائج أي اعتقاد، ومن تقرير ما إذا كانت له نتائج عملية أم أنه يفتقر إلى مثل هذه النتائج.

البراغماتية والعلم

أما تطبيق النظرية البراجماتية عن الحقيقة في مجال العلم، وما ذهب إليه (جيمس) والبراجماتيون من أن قضايا العلم قضايا حقيقية لأنها مفيدة عمليًا، فيبدو نسفًا للحقائق العلمية من أساسها. إن قبول نظرية معينة واعتبارها صحيحة بدون برهان، لمجرد أنها نافعة أو أنها ترضينا من ناحية ما، هو نقيض الموقف العلمي تمامًا. إن الفرض المرضي فحسب هو في أغلب الأحيان أقرب الفروض إلى الخطأ.

أما تطبيق الفكر البراجماتي على المعتقدات الدينية، فيبدو لكثيرين كارثة. فإننا لا نسلم بالحقائق الدينية لمجرد أنها نافعة - في نظرنا القاصر - بل لأنها حقائق في ذاتها بصرف النظر عن فائدتها ونتائجها العملية الناجحة. لأنه لو سلمنا بهذا المعيار البراجماتي كما فعل (جيمس)، لكانت أية عقيدة مهما تكن أسباب إنكارنا لها، حقيقة لمن يرى أنها نافعة له، فتستوي بذلك النحل والبدع والديانات المحرفة مع الدين الحق.

لقد تنفس (جيمس) الصعداء لاستطاعته إزالة العراقيل التي كانت تقف في طريق معتقداته الدينية، ولكنه، كما قال «سنتايانا» بقسوة، لم يكن يؤمن حقيقة، بل كان يؤمن بأن من حق الإنسان أن يؤمن بأنه يمكن أن يكون على حق لو آمن. إننا لو قلنا لشخص ما إنني أعتبر عقيدتك خرافة، ولكن إذا كانت مفيدة لك فهي عقيدة حقيقة بالنسبة لك، أليس في ذلك سخرية منه؟

ومن أهم الانتقادات أيضًا أن البراجماتية تركز على الفرد وتعلي من الفردية إلى أقصى حد. وهي بذلك تعكس الفردية الممزقة التي سادت أمريكا في القرن التاسع عشر. وهذه الفردية، بما يرتبط بها من فوضى وغموض، تجعل الأفراد عاجزين عن تحمل النظام والرقابة والمهام الاجتماعية.

إن هذه الفردية هي التي جعلت أواصر قربى بين البراجماتيين وبين الفيلسوف السوفسطائي بروتاجوراس حين قال: إن الإنسان مقياس الأشياء جميعًا. وقد كتب «شيلر» يقول: ينبغي علينا أن نعود مرة أخرى إلى ما فعله بروتاجوراس، فنتخذ الأحكام الفردية لأشخاص مفردين نقطة بدء لنا. لكن ليس لنا أن ننسى أن (بروتاجوراس) هو أحد هؤلاء الذين كانوا يخلطون الحق بالباطل، لكي يتصيد في الماء العكر ما هو زائف ومريح، ويشيد صرح الخطابة على أنقاض الفلسفة.

لقد لاحظ (أفلاطون) بحق في «ثيتاتوس» أننا لو سلمنا بمبدأ (بروتاجوراس)، لكان معنى ذلك التسليم بأن حجج المجنون تعادل في صدقها حجج العاقل، وأن أحط الحيوانات شأنًا قد يكون له رأي في الكون لا يقل حصافة عن رأي الإنسان الحكيم.

وأخيرًا، يرى كثيرون أن البراغماتية قد تصلح لأولئك الذين يتمتعون بروح عدوانية تسعى إلى السيطرة النابليونية. أما بالنسبة لأولئك الذين يتمتعون بالروح الإنسانية، ويتمسكون بالمثل العليا والقيم الدينية، فإن البراغماتية تبدو لهم ضيقة الأفق، محدودة الإطار، ومخيبة للآمال.

google-playkhamsatmostaqltradent