ما علاقة الفلسفة بالمجتمع
فيما يتعلق بالفلسفة والمجتمع, هناك أتهام دائمًا مايتعرض له الفلاسفة, وهو أتهامهم بالعزلة عن المجتمع, فهل الفلاسفة فعلًا إنعزاليون لا يهتمون بمشكلات الواقع ولا يحاولون الاسهام في حلها .
الفلسفة والمجتمع |
أصحاب الرأي المناقض لهذا التوجه ينكرون ذلك, بل يقرون أن الفلسفة هي فكر المجتمع مركز في مذاهب, وأن الفلسفة والمجتمع متصلان ولاينفكان عن بعضهما البعض, فالفيلسوف قد يبدو في ظاهره انعزاليًا إلا إنه في حقيقة الامر غير ذلك, ومما يساعد على أضهاره في المجتمع الحديث بهذا المظهر أن الدين مثلًا ورجاله لا زالوا يحضون بتقدير الناس وحماية الدولة التي غالبًا ماتردع الخارجين عليه .
وكذلك فان الفقهاء يسهرون على حماية النصوص الدينية ، ومن ناحية الأفراد نجد أنهم يتورعون عن التهكم على السلطة الدينية إما خوفًا من بطش رجالها المتسلطين على الحكم أو خشية من الحساب الأخروي .
وكذلك نجد العلم ورجاله موضوع تقدير المجتمع من الناحية المادية والمعنوية لأنه يقدم نتائج مباشرة ملموسة ذات نفع عاجل في مختلف الميادين التطبيقية .
فاذا انتقلنا إلى ميدان الفلسفة نجد العكس من هذا كله ، ذلك لأن الفيلسوف إنما يسبر أغوار المجتمع البعيد ولا يهم كثيرًا بأن يقدم نتائج عملية مثمرة لأبحاثه الفلسفية بل هو يكتفى بفهم الحقيقة الخارجية أو الذاتية ويبلور آراءه فى مذهب معين .
وهذا المذهب كما سنرى يكون مركزا للانتشار الحضارى عند شعب معين لأن الحضارة تقوم على الفكر أولًا ويأتى العمل في المرتبة التالية. ولهذا فإن الدولة الحديثة لا تعنى كثيراً برعاية الفلسفة أو تقدير رجالها كما تفعل بالنسبة للدين والعلم لأن الوجه المادى للمجتمع هو مناط اهتمامها ومبعث نشاطها الأول .
وحقيقة الأمر أن هؤلاء الذين يعادون الفكر الفلسفي إنما ينظرون إليه نظرة سطحية ساذجة . وإذا تعمقنا جذور المشكلة نجد أن الفيلسوف هو الذي يدفع عجلة التقدم في المجتمع بالأفكار التي يعرضها . وهو الذي يخلق تيارات جديدة في عصره وفيما يليه من عصور ، والشواهد على ذلك كثيرة .
وقبل أن نضرب بعض الأمثلة نذكر أن هذه النظرة السطحية المعادية للفكر الفلسفي إنما جاءت نتيجة للتزمت الذى التجأ إليه التجريبيون في القرن التاسع عشر ، هؤلاء الذين استبعدوا من نطاق أبحاثهم كل مالا يصلح أن يكون موضوعًا للملاحظة والتجربة .
وقد ساعدت دعوى الماركسيين في التفسير المادي للتاريخ وكذلك آراء أوجست كونت الوضعية على سيادة هذه النظرة المعادية للفلسفة بحيث ألقت هذه الموجات الفكرية الضيقة ستاراً من الشك حول الفكر ومطالبه ، وعملت من ناحية أخرى على إعلاء وجهة النظر المادية والتفسير المادي في جميع ميادين النشاط الاجتماعي والإنساني .
دور الفلسفة وأهميتها في حياة الفرد والمجتمع
والآن نذكر بعض الأمثلة للدلالة على مدى تأثير الفلسفة في المجتمع . فنجد أن الفيلسوف الفرنسي ديكارت وهو أبو الفلسفة الحديثة - كما يقولون - كان له أبلغ الأثر في جميع النواحي الثقافية والعلمية في حياه فرنسا وأوربا في القرن السابع عشر ، وكذلك نلمس تأثير الموسوعيين وفولتير وغيرهم من الكتاب الاحرار في فرنسا .. نلمس تأثيرهم الكبير في الشعب الفرنسي وكيف أنهم مهدوا لقيام الثورة الفرنسية وكانت كتاباتهم هي السبب الأول والدعامة الكبرى لقيام هذه الثورة .
ديكارت-أبو الفلسفة الحديثة |
وفي ألمانيا نجد الفيلسوف المثالي هيجل يحيى النزعة الجرمانية القديمة وقد أدت فلسفته الى قيام الحكم الدكتاتورى النازى فى ألمانيا فيما بعد ، واذا انتقلنا الى روسيا وسائر الدول الشيوعية حيث يعتنقون مذهب المادية التاريخية الفلسفي نجد أن الحضارة في هذه الدول قد تلونت بلون هذه الفلسفة .
الفيلسوف المثالي هيجل |
وفي الشرق العربي الإسلامي نجد الافكار الفلسفية لجمال الدين الافغاني تأخذ طريقها إلى الشعوب العربية والإسلامية فتكون سببًا فى قيام ثورات تحررية وسياسية اجتماعية في الشرق ومن أهم هذه الثورات التي بذر بذورها الأولى جمال الدين الافغاني ، ( ثورة هراني في مصر ) .
جمال الدين الافغاني- فيلسوف الشرق وموقظ الاسلام |
وفي انجلترا نجد الفيلسوف بنتام وراء حركة الاقتصاديين الأحرار فهو الأب الحقيقي للاقتصاد الحر الذى أدى إلى قيام النظام الرأسمالي كما أشار إلى ذلك المفكر الاقتصادي الكبير آدم سميت ، ولاشك أن جون ستيوارت هل قد أسهم مساهمة كبرى في الفكر الاقتصادي والسياسي لإنجلترا في القرن التاسع عشر وهو فيلسوف معروف .
بنتام الأب الحقيقي للاقتصاد الحر |
وإذا استعرضنا مواقف الفكر فى الولايات المتحدة الأمريكية نجد أن مدرسة البرجماتيين عند بيرس ووليم جيمس وجون ديوى ، نجد أن هذه المدرسة تؤثر تأثيرا عميقًا في حياة الشعب الامريكي من جميع نواحيه ، بحيث أن مفاهيمها أصبحت دستوراً للسلوك في المجتمع الامريكي .
بيرس-وليم جيم-وجون ديوى |
وستعرف من دراستنا للفلسفة اليونانية كيف كان الفيلسوف اليوناني على صلة وثيقة بالمجتمع يؤثر فيه ويتأثر به ويوجه تياراته السياسية والاقتصادية ، فسقراط مثلا وقف في بطولة أمام مثيري الفتنة من السفسطائيين الذين كانوا يتحكمون في النظام السياسي الأثيني بأستخدامهم اساليب الاستثارة الخادعة وضروب التضليل والنفاق .
وكذلك افلاطون فأنه قام ينادى بأعادة إصلاح المدن اليونانية سياسيًا واجتماعيًا ، وقد ساهم مساهمة فعالة في ان يهيء الفرصة لإصلاح الحكم في جزيرة صقلية. وكانت فلسفته على وجه العموم ذات وجهة سياسية إذ أنها كانت تستهدف قيام عالم أفضل أشار إليه وإلى بنائه في كتاب الجمهورية.
وكذلك أيضا فأن ارسطو يعد الموجه الأكبر للاسكندر الاكبر لأنه كان معلمًا له ، وكان لصداقة أرسطو بالملك هرمياس اثرها الكبير في توجيه هذا الملك إلى الناحية الفلسفية والعدالة والتمسك بالمبادىء في النشاط السياسي .
فلاسفة الاغريق العظام |
هذه صور كثيرة تبين لنا مدى ارتباط الفكر الفلسفي ارتباطًا وثيقًا بالمجتمع فما من موقف اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي أو غير ذلك إلا وله أسباب تربطه بنظرية فلسفية عميقة سواء أكان ذلك من الناحية الإيجابية أو من الناحية السلبية.
وفي ميدان العلم في عصرنا هذا نلاحظ أن نظريات الذرة المفسرة لتركيب المادة إنما ترجع في أصلها إلى انشتاين وهو عالم وفيلسوف (فقد أضاف بعدا جديدا -في تفسيره لا بعاد المكان - هو البعد الزماني) وكذلك نجد شخصا مثل برتراند راسل وهو عالم رياضى كبير يشتغل بالفلسفة ويربط بينها وبين العلم ، ويرى أنه ما من مشكلة علمية أو اجتماعية أو إقتصادية إلا ولها اتصال وثيق بالفلسفة .
ونختم استعراضنا هذا بالإشارة إلى تأثير الفلسفة من الناحية السلبية عند فيلسوف عملى هو ميكيافيلي صاحب كتاب الأمير، فنجده يرسم مبادى العمل السياسي وأسلوب المؤامرات التي عرفها العالم في القرون الوسطى. ونجد أيضا أن هذه التخطيطات التي أشار إليها ميكيافيلي كانت تسود هذه العصور بل وتعتبر القانون الغير المكتوب للولايات الإيطالية قبل الوحدة الإيطالية .
فإذا كانت الفلسفة لها هذا التأثير الضخم في حضارات الغرب فانه لا يمكن أن تفصل الفكر الفلسفى عن بيئته الحضارية والتاريخية ، بينما نستطيع في أي علم آخر أن نفصل بين موضوع العلم وتاريخه .
ففي علم الطبيعة مثلا نستطيع الفصل تماما بين تاريخ هذا العلم وبين ما يدرسه عالم الطبيعة المعاصر من مشكلات ، ولكننا في نطاق الدراسات الفلسفية لا نستطيع أن نفعل مثل هذا، فالمشكلة الفلسفية تظل في جوهرها حية دائما وتتطلب حلولا مختلفة بحسب تطورات الفكر في كل عصر من العصور.
ونحن في تاريخ الفلسفة لا نلقى ضوءا كبيرا على الواقعة بل توجه النظر إلى الفكره التي تصاحب الواقع التاريخي لأنها فكرة إنسانية في جوهرها . وما الفكر الفلسفي إلا حصيلة أفكار البشر خلال التطور التاريخي للانسانية .
والعقل واحد عند البشر جميعا وإنما الإختلاف في الصياغة وفي طريقة تناول الأفكار وفي الظروف التاريخية والمحلية لكل مجتمع. وليس معنى هذا أن الفكر الفلسفي تعلوه مسحة من الثبات وعدم التطور ، بل العكس هو الصحيح ، فنحن حينما نعرض لآراء أفلاطون مثلا في عصرنا هذا فاننا نفهمها بطريقة تختلف بعض الشيء عما فهمه اليونانيون من افلاطون في العصر الذى ألف فيه أفلاطون محاوراته .
ويدخل في حساب فهمنا الحاضر للنصوص الأفلاطونية ذلك الرصيد الضخم من الثقافة الإنسانية منذ عصر أفلاطون إلى اليوم، وبمعنى آخر نجد أن التطور التاريخي للإنسانية في مراحلها اللاحقة قد سمح بالقاء أضواء جديدة على الفكر الأفلاطوني قراه كما لو كان فكراً يتقدم ويتحرك عبر الزمان .
والواقع أنه لا يمكن لأى مفكر فى أى عصر سابق أو لاحق أن يغفل مشاكل الفلسفة كما عرضها اليونان في سهولة وبساطه أو كما عرضها ديكارت في جرأة ووضوح، أو كما عرضها كانت بطريقة نقدية رائعة، وأخيرا نجد بين معالم الطريق الفلسفي الطويل فلسفة هيجل وجدله العقلى .
فهؤلاء إذن ( افلاطون ، ديكارت ، كانت ، هيكل ), يعتبرون المعالم الرئيسية فى الطريق الذي قطعته الفلسفة إلى عصرنا هذا ، وهذا بالإضافة إلى التأثيرات التي وردت من الشرق فزادت من خصوبة الفكر الفلسفي مع احتفاظ هذا الفكر بطابعه المميز عن الفكر الشرقي القديم, ونلاحظ أمثال هذه التأثيرات الشرقية عند أفلاطون أفلوطين واسبينوزا وليبنتز .
وإذا كانت الفلسفة القديمة التي كانت تدعى ( موضوعية التفسير )، قد باعدت بين الإنسان والكون، الأمر الذي عارضه الفنانون والشعراء في جميع العصور إلا أننا نجد الفلسفة المعاصرة وقد اندفعت في الطريق الذى عطله القدماء وسلكه الشعراء والفنانون من قبل .
فنجد فيلسوفًا معاصرًا مثل هوايتهد يحاول من نقده لآراء ديكارت وكانت ، وتصحيح أفكارنا عن العلة والجوهر والزمان والمكان ، يحاول عن طريق ذلك أن يقرب المدى بين الإنسان والسكون الذي يعيش فيه ، وبذلك يتخلى الفكر الفلسفى المعاصر عن الإطارات الفلسفية الضخمة التي ورثناها عن العصرين القديم والوسيط ، ومعنى ذلك أننا نحيا الآن في خضم ثورة فلسفية عارمة تتجه إلى رصد تجربة الذات الإنسانية في حياتها مع الوجود .
على أنه يمكن القول بأن الفلسفة مازال في حوزتها دراسات لم تستطع العلوم الجزئية أن تتصدى لها مثل : مناهج البحث العامة والخاصة . وفلسفة القانون وفلسفة السياسة ، وفلسفة التاريخ وفلسفة الاخلاق وفلسفة الجمال . وكذلك فانه إذا أمكن للعلوم الجزئية - في المستقبل - أن تضع - متعاونة - معادلة موحدة لتفسير سائر الظواهر الكونية ، فاننا سنكون اكثر اقترابا من تحقيق حلم الفلسفة القديم وهدفها العريض وأملها في صياغة مذهب يفسر الوجود بطريقة موضوعية .