أصله من مدينة أفيز وهو سليل أول عائلة أفيزية. عاش في مستعمرات آسيا الصغرى - كأسلافه - وكانت سنوات نضوجه تقع في الفترة ما بين القرنين السادس والخامس. وقد تنازل عن مكانته المرموقة وسط رهطه لأخيه، وعاش حياة يكتنفها التشاؤم والعزلة عن البشر.
هيراقليطس-فيلسوف الصيرورة والنار |
تقع أعماله في ثلاث مؤلفات ضخمة في علم الكون، والسياسة، واللاهوت. يغلب على أعماله طابع الأبحاث. وكان أسلوبه في الكتابة متشائماً ويميل للتشبيهات، ولذلك أُطلق عليه لقب "الأسود". وقد احتفظت أعماله - نتيجة لمجهودات الرواقيين والشكاك والأكاديميين - بجزء كبير منها. إذ لدينا منها حوالي 130 مقتطفًا.
لم يكتفِ بملاحظة العالم الخارجي، وإنما أدخل أسلوب الاستنباط في دراساته. وكان يميل إلى الموقف القوي والعراك الفكري، وكان أول فيلسوف لا يكتفي بعرض أفكاره وإنما يعمل على الصراع مع الأفكار الأخرى.
فلسفة هيراقليطس
تعتبر فلسفة هيراقليطس واحدة من أبرز الفلسفات التي ظهرت في العصور القديمة، حيث قدمت رؤية متميزة عن طبيعة الواقع والتغير.
النار كأساس للعالم
كانت نظرية هيراقليطس قريبة من النظريات الأيونية، فقد بحث أيضًا عن أساس العالم ووجده في النار. تتحول النار إلى بحر وهواء وأرض، ثم ترجع مرة أخرى إلى شكلها الأول. يحدث تحول النار في اتجاهين: "إلى أسفل" و"إلى أعلى".
عندما تنزل النار من عليائها، تتحول إلى هواء، وعندما ترتفع تتحول إلى ماء. ينزل الماء إلى الأرض ويصبح ترابًا، ومرة أخرى يتبخر الماء في الأرض ويتحول إلى سحب، ثم يطل على أعلى في شكل نار. الاتجاهات اثنان، ولكن "الطريق إلى أعلى وإلى أدنى واحد"؛ هكذا يقول هيراقليطس ببساطة وبغموض.
لم تتطور نظرية هيراقليطس حول النار أكثر من مستوى الفلسفة الأيونية. ولهذا فإن لشهرته سببًا آخر، يتعلق بتعبيراته الغامضة التي جعلت أفكاره محط اهتمام الفلاسفة اللاحقين.
تنوع الأشياء
درس هيراقليطس خواص العالم واكتشف أن أهم خاصية للعالم هي تنوعه. أبرز صورة للواقع هي النهر؛ كل شيء يعوم، ولا شيء خالد. "لا يمكن أن تعبر النهر مرتين" لأنه تجري فيه مياه أخرى غير تلك التي عبرتها.
الموت هو صورة أخرى للتنوع، الشيء الوحيد الذي نخافه هو الموت، مع أننا متنا أكثر من مرة. "الموت بالنسبة للروح هو أن تتحول إلى ماء، وبالنسبة للماء هو أن يتحول إلى أرض". الطبيعة هي حالة دائمة من الموات وحالة دائمة من الولادة، ونفس هذه الطبيعة هي طبيعة أخرى.
"نحن نعبر نفس النهر ولا نعبره". لا تستطيع القول بأننا نحن أنفسنا، فحن أنفسنا ولا أنفسنا في نفس الوقت. الحقيقة الوحيدة هي أننا نتغير؛ قد تبدو بعض الأشياء دائمة، ولكن دوامها مجرد وهم.
لا توجد أشياء بخواص ثابتة، ليس هناك شيء اسمه الوجود، هناك فقط التواجد. وهكذا أصبح التنوع خاصية لفلسفة هيراقليطس، بل أطلق على هذه النظرية الهيراقليطية "نظرية التنوع"، بالرغم من أنها تمثل فقط جزءًا من فلسفته.
نسبية الأشياء
تظهر الحدود بين المتناقضات أثناء عملية التنوع الدائمة للأشياء. لا توجد حدود ثابتة، وإنما توجد دائمًا حالة انتقال دائمة من النهار إلى الليل، على سبيل المثال، أو من الشباب إلى الشيخوخة. وعليه، يقول هيراقليطس إن النهار والليل هما مظهران لشيء واحد، وكذلك الشباب والشيخوخة، وأيضًا الحلم واليقظة، والحياة والموت، والخير والشر.
وبذلك، فإن كل الخواص نسبية، وهكذا تميزت فلسفة هيراقليطس بالنسبية. فقد لاحظ أنه لا يوجد شيء يملك خواصًا ثابتة ومطلقة، فكل شيء تتغير خواصه ويدخل من تناقض إلى آخر، من الصحو إلى الحلم، ومن الشباب إلى الشيخوخة، ومن الحياة إلى الموت.
هكذا، تعتمد الحياة على المتناقضات. كانت هذه الفكرة تمثل أساسًا لتطور الفكر الفلسفي، حيث ساهمت في إعادة النظر في الكثير من المفاهيم الفلسفية القديمة.
وهكذا، فقدت قضايا الفلسفة الأيونية الأولى أهميتها في فلسفة هيراقليطس؛ فلا معنى هنا للسؤال عن الخاصية الثابتة والدائمة لبداية العالم. لم يُخلق هذا الكون أي إله أو إنسان، فقد كان وسيظل دائمًا شعلة ملتهبة من النيران.
لا معنى للحديث أيضًا عن المكون الثابت للطبيعة، لأنه لا يوجد شيء ثابت. لقد كان هواء أنكسمينس مكونًا ثابتًا، ولكن نار هيراقليطس لم تكن مكونًا ثابتًا، وإنما هي مرحلة دائمة التنوع. كانت مقياسًا لكل الأشياء؛ النار تتحول إلى أشياء، والأشياء تتحول إلى نار.
"بالضبط كما تتحول البضائع إلى ذهب، والذهب إلى بضائع". وإذا كانت "للنار الخالدة" مكانة ثابتة في فلسفة هيراقليطس، فذلك لطبيعتها المتغيرة، فقد كانت مجرد صورة للواقع المتغير.
عقلانية العالم
كل شيء متغير، ولكن هناك شيء واحد ثابت، وهو التنوع. فالتنوع هو الخاصية الثابتة للطبيعة، وأكثر من ذلك، فالنظام الذي يتم به التنوع هو نظام ثابت. "تلتهب النار بمقياس، هناك قانون واحد يحكم كل التغيرات، ويحكم الإنسان، أي التنوع هو نظام ثابت تلتهب النار بمقياس وتنطفئ بمقياس".
كما يحكم الكون التنوع. العقل ليس قدرة إنسانية خاصة، وإنما هو قوة كونية تُعرف باللوجوس. كان هيراقليطس أول فيلسوف يتحدث عن العقل الذي يعمل في كل الكون، والعقل الذي يتكلم عنه خالد مثل العالم. فهو العامل الإلهي الأساسي.
كانت فكرة عقلانية العالم هي الفكرة الضخمة الثابتة بجانب فكرة التنوع التي أدخلها هيراقليطس في الفلسفة. فقد أدخل هذه الفكرة لأنه، كما يقول عن نفسه، كان أول فيلسوف يبحث في داخله ولا يكتفي فقط بالبحث عن الطبيعة. كان يفهم الطبيعة بصورة مشابهة لما يعيشه، حيث إن عقلانية العالم هي سبب تنوعه وسبب التناقضات الموجودة فيه.
لم يكن هيراقليطس يتجنب الخوض في قضايا التناقض كما فعل أسلافه، وحتى معاصريه الإيليين. كان يرى أن التناقضات تكامل بعضها، وأنه يستحيل تخيل الواقع بدون هذه التناقضات. يسود العالم انقسام واختلاف، والحرب هي "أب وملك الكون"، ولكن العقل الذي يحكم العالم يقول إن "ارتباط العوامل المتناقضة يؤدي إلى قيام انسجام.
بعض مفاهيمه حول المعرفة والأخلاق
كان هيراقليطس أول فيلسوف يهتم بالقضايا الإنسانية، وقد كتب العديد من الأفكار حول قضايا المعرفة والأخلاق. كان يتأمل في أعماله الخاصة، وكان يعرف أن أعماله وأسلوبه يختلفان عن الأعمال الساذجة للأيونين. كما كان له موقف نقدي من المعرفة الحسية، حيث قال: "إن أعين وآذان البشر هي شهود مزيفة ولها روح بربرية".
هذا هو أقدم رأي في نقد المعرفة يصلنا من الفلسفة الأوروبية. يعتبر هذا النقد نقطة انطلاق لفهم أعمق لأسس المعرفة وكيفية تأثيرها على التجربة الإنسانية. من خلال تأملاته، ساهم هيراقليطس في تطوير فكر فلسفي يركز على أهمية العقل والتفكير النقدي.
أهمية هيراقليطس
تميز هيراقليطس في تاريخ الفلسفة بنظريتين رئيسيتين:
- الأولى هي نظرية التنوع الدائم، التي ارتبطت بنظرية النسبية، حيث اعتبر أن كل شيء في حالة تغيير مستمر.
- أما الثانية فهي نظرية عقلانية العالم، المعروفة باللوجوس، التي تتحدث عن العقل الكوني الذي يحكم الكون ويُشكل أساس النظام الكوني.
اهتم هيراقليطس أيضًا بالقضايا الإنسانية، حيث أدخل عنصر الاستبطان في البحث العلمي، مما ساهم في تطوير الفلسفة الأخلاقية والمعرفية. من خلال رؤيته، دعا إلى التفكير النقدي والتأمل في الطبيعة الإنسانية، مما جعله واحدًا من الفلاسفة البارزين الذين أسهموا في تشكيل الفكر الفلسفي.
أتباع هيراقليطس
من تلاميذ هيراقليطس كان كراتيلوس، الذي نادى بنظرية المتغيرات بشكل متطرف. تتلمذ على يديه أفلاطون، مما يدل على تأثيره العميق في الفلسفة. كما أثر هيراقليطس بشكل غير مباشر على الأجيال اللاحقة، مثل أفلاطون الذي تبنى نظرية التنوع ولكن فقط بالنسبة للعالم الواقعي.
أيضًا، تأثر السفسطائيون، وخاصة بروتاغوراس، بنظرية النسبية والاهتمام بالقضايا الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، جدد الرواقيون نظرية النار وعقلانية العالم التي طرحها هيراقليطس، مما يبرز استمرارية تأثير فلسفته على مدار العصور.