الوعي الفلسفي اليوناني
الوعي الفلسفي ليس شيئاً يمكن للجميع تحقيقه، بل هو خاص بالفلاسفة بشكل رئيسي. الفلسفة تتطلب قدرات معرفية معينة تكشف لنا عن الحقائق الفلسفية، وهذه القدرات لا تأتي إلا من خلال ممارسة التفكير العقلاني والممنهج بشكل منظم .
كتاب ماهية الوعي الفلسفي |
الفيلسوف هو "الوحيد الذي يحيا وبصره مثبت على الطبيعة وعلى كل ما هو إلهي. إنه يشبه الملاح الجيد الذي يرسي سفينة حياته عند ما هو أبدي ودائم، وهناك يلقي مرساته ويحيا سيد نفسه".
فهم الوعي الفلسفي
فهم الوعي الفلسفي يعتمد على معرفة كيف أدرك الفلاسفة أنفسهم مفهومه. لا يمكن تعريفه بدقة إلا من خلال دراسة جهود الفلاسفة الكبار وأعمالهم الفلسفية. لفهم الوعي الفلسفي بالكامل، يجب النظر في كيفية تجسيده من خلال تفكير الفلاسفة العظماء.
الوعي الفلسفي يظهر بوضوح في تاريخ الفلسفة، لكن السؤال هو: هل يمكننا فعلاً الحديث عن "الوعي" كما لو كانت الفلسفة لها تاريخ محدد؟ التاريخ، كما هو معروف، مرتبط بالزمان، والزمان يعني التغيير والتحول المستمر .
الأحداث التاريخية تحدث على شكل خط مستقيم يمتد من الماضي إلى الحاضر، ويؤثر أيضاً على المستقبل. لذا، الحركة التاريخية تتطلب تطوراً وتغييراً مستمراً في المواضيع التي تتناولها. إذا أردنا فهم الفلسفة من خلال التاريخ، يجب أن ندرك أن الفلسفة، مثل أي موضوع تاريخي آخر، تتطور وتتغير بمرور الزمن .
الفلسفة لها تاريخ لأنها تحتاج وقتاً لتكشف عن الحقيقة, رغم أن الحقيقة
الموضوعية واحدة وغير متغيرة، إلا أن الإنسان لا يمكنه اكتشافها دفعة واحدة.
بدلاً من ذلك، يجب على الروح الإنسانية أن تتقدم خطوة بخطوة وتقترب من
الحقيقة تدريجياً. هذا التقدم والتكوين يستغرق وقتاً ويحدث عبر الزمن، مما
يعني أن الفلسفة يمكن أن يكون لها تاريخ .
تاريخ الوعي الفلسفي يتكون من أفكار الفلاسفة القدماء والإسهامات التي جاءت بعدهم من الفلاسفة المحدثين. لذلك، لا يمكن اعتبار الوعي الفلسفي الحالي منفصلاً عن الوعي الفلسفي السابق. كلاهما يشكلان جزءاً من الفلسفة ككل، وهي نتيجة لتجربة معرفية مستمرة قامت بها الروح الإنسانية .
هيغل يرى أن تاريخ الفلسفة يبدأ عندما يصل الفكر إلى درجة من الحرية. هذا يعني أن الفكر يتجاوز الانغماس في الطبيعة ويصبح قادراً على التفكير بشكل مستقل. عندما يصبح الفكر واعياً بنفسه وقادراً على فهم نفسه بوضوح، تبدأ الفلسفة .
هيغل ينكر على الفلاسفة الشرقيين أنهم وصلوا إلى مستوى الفكر الحر، مشيراً إلى
أن لديهم قوانين وأخلاق ودولة، لكنها كانت مرتبطة بنظام اجتماعي تقليدي وطبيعي
وليست ناتجة عن حرية شخصية. بالمقابل .
يرى هيغل أن الفلسفة بدأت في اليونان، حيث بدأ "عالم الحرية" هناك. بالنسبة له، الحرية تعني أن الروح تفكر في ذاتها وأن الفرد يرى نفسه كجزء من الكل الأعم. هذا الفهم العميق للحرية والوجود يجعل الفلسفة اليونانية أساساً للفلسفة كما نعرفها .
ومن هنا ارتأى هيغل أنَّ العلاقة بين الحرية والتفكير الكلي كانت أساس ظهور الوعي الفلسفي في انبثاقه الأول في بلاد اليونان. فاليونانيون امتلكوا الشروط الأساسية للتفكير الكلي، ومن ثم فإن الفلسفة تبدأ عندهم .
هيغل يحدد تاريخ ظهور الوعي الفلسفي مع طاليس (نحو 640 أو 629 ق.م - 550 ق.م). نجد أن هذا الرأي يتكرر مع فيلسوف آخر هو مارتن هيدغر، الذي يؤكد أن الفلسفة هي التي حددت لأول مرة وجود العالم اليوناني، وأن الفلسفة الغربية الأوروبية هي تحصيل حاصل لأنها في جوهرها يونانية .
مع ذلك، نيتشه ينتقد هذا الرأي، قائلاً "من العبث أن ننسب للأغريق ثقافة أصيلة". يرى نيتشه أن الأغريق لم يكونوا سوى هاضمين للثقافة الحية لشعوب أخرى .
بناءً على ما سبق، يمكننا القول إن الفلسفة بدأت بالفعل عند اليونانيين في
القرن السادس قبل الميلاد. رغم وجود تأثيرات شرقية، فإن بداية الفلسفة تتجلى في
الفكر اليوناني. فقد منح الافتقار إلى الوثائق التاريخية الفلاسفة ومؤرخي
الفلسفة فرصة لتأكيد الفلسفة اليونانية كمصدر رئيسي للوعي الفلسفي عبر التاريخ
.
الوعي الفلسفي اليوناني في الدور الاول-البحث عن مبادى الوجود
أن طاليس الملطي هو أول الفلاسفة لأنه أكد أن الماء هو أصل الاشياء, أي إنه يمتاز بأنه أكد رأيه بالدليل, حيث أكد أن قوام حياة الكائنات الحية مثل النباتات والحيوانات هو الرطوبة .
غير أن المهم في هذا المنحى هو التساؤل عن الطريقة التي توصل بموجبها طاليس
إلى القول: إنَّ الماء أصل الأشياء. ويبدو كأنه وصل إلى أطروحته الأساسية
بوساطة مجموعة من الملاحظات العلمية الأولية، ومراقبات لتحولات الكائنات
الحية وتأثير الماء فيها .
لكن لـ " نيتشه " رأياً آخر في هذا السياق وهو أن الملاحظات غير المتماسكةالتي قدمها طاليس حول أصل الاشياء، أو بالاحرى حول عنصر الرطوبة بالتحديد، لم تكن لتسمح أو حتى لتوحي بهكذا تعميم مترامي الأطراف (أي القول بأن الماء أصل الأشياء) .
إن ما دفعه إلى ذلك بحسب نيتشه هو مسلمة ميتافيزيقية، تجد أصلها في حدس ذي
طبيعة روحانية، وهي مسلمة نجدها في كل الأنساق الفلسفية رغم المحاولات
للتعبير عنها بشكل أفضل: إنها مسلمة أن الكل هو واحد" .
اللافت للنظر هو أن هذه الطريقة في التفكير التي اجترحها طاليس سادت من بعده، بصرف النظر عن حسبان الماء أصل الأشياء، بمعنى: أن أسلوب التفكير الذي يرجع الأشياء إلى أصلها كان هو الخصيصة الأساسية التي ميزت الوعي الفلسفي، في بدايات ظهوره عند اليونانيين .
فها هو أنكسيمندريس تلميذ طاليس يسير على خطى أستاذه ويسلم بأن للأشياء
أصلاً، بيد أن هذا الأصل - كما يرى - لا يمكن أن يكون الماء، وإنما الأبيرون
أو اللامحدود، أي " المادة اللامحدودة" .
فهو إذن شيء مادي أو هو المادة نفسها متصفة بصفات اللانهائية أو اللامحدودية
". وقد نظر أنكسيمندريس إلى الأبيرون على أنه لا محدود من ناحية الكيف والكم
معاً. وتنشأ الأشياء عن الأبيرون بالانفصال، لكن انكسيمندريس لم يحدد طبيعة
هذا الانفصال غير أنه يجب أن يفهم عنده " فهماً ديناميكياً "كما هي الحال عند
طاليس ".
وتسود هذه الطريقة في التفكير في المدرسة الأيونية، أي عملية رد كثرة
الموجودات إلى مبدأ طبيعي أو مادي واحد، فيذهب أنكسيمانس وهو تلميذ
أنكسيمندريس إلى أن الهواء لا الماء ولا الأبيرون هو أصل الأشياء .
وما دفع أنكسيمانس إلى هذا الاعتقاد هو ربطه بين بقاء الحياة في الإنسان
وبين بقاء التنفس. لأنه بمجرد انتهاء التنفس تنتهي الحياة، فمصدر الحياة في
الإنسان إذن هو التنفس .
ويظهر أن أنكسيمانس لم يأت بجديد، من حيث القواعد العامة للتفكير الفلسفي،
وإنما سار على نهج طاليس نفسه، بأن حدد أصلاً للأشياء، وقدم الدليل على صحة
قوله بهذا الأصل أو المبدأ .
وبالجملة، يمكن النظر إلى أعلام المدرسة الأيونية على أنهم وضعوا مذهب
الواحدية المادية، وربما كان الواحديون الماديون أول من فسر الوجود، فطاليس
الذي بدأت معه الفلسفة ذهب إلى القول بأن جوهر الأشياء ومبدأها هو الماء،
وكذلك كان الأمر عند أنكسمانس حينما أرجع الوجود إلى عنصر مادي هو الهواء و
أنكسيماندريس الذي فسر الوجود باللامحدود .
في الفلسفة اليونانية المبكرة، كان مذهب الواحدية المادي هو الأساس، وهرقليطس، الذي عاش بين 540 و475 ق.م، كان أحد الفلاسفة الذين تبنوا هذا الفكر .
اعتبر هرقليطس أن العالم في حالة تغير دائم، وقال إن "الأشياء في تغير
مستمر". اعتقد أن الثبات يتعارض مع الحياة، التي تعتمد على التحولات
والتغيرات .
بالنسبة لهرقليطس، النار هي العنصر الأساسي الذي يمثل التغير، وليست النار
التي نراها بل "نار إلهية" خفيفة وأثيرية. النار تتغير وتتطور إلى أشكال أخرى
مثل البحر والأرض، ومن ثم تعود إلى شكلها الأصلي .
هذه الدورة من التغير والتطور مستمرة ولا تنتهي، وفقاً لقانون ذاتي يطلق
عليه هرقليطس "اللوغوس", وهنا من المهم التدليل على أن فكرة الضرورة تظهر
لأول مرة بشكل صريح من حيث إنها صفة لقانون ذاتي .
مع العلم أن أنكسيمندريس كان قد أكد قبل هرقليطس - " أن ما تتولد عنه
الأشياء، إنما يجب أن تتوجه نحوه أيضاً لكي تبلغ نهاياتها بالضرورة، وذلك
أنها يجب أن تكفّر عن أخطائها حسب نظام الزمن".
لكن الجديد الذي أضافه هرقليطس هو قوله بـ " اللوغوس " ويعني به" مبدأ أو
قانون السيلان الدائم الذي تجري على أساسه أنواع التغير .المهم في الأمر أن
هرقليطس يتجه اتجاهاً جديداً في تفكيره، فيؤكد أن " النار هي الله". والله
نهار وليل، شتاء وصيف، حرب وسلم، وفرة وقلة، يتخذ صوراً مختلفة كالنار
المعطرة بأسم العطر الذي يفوح منها .
يُفهم من كلام هرقليطس أنه يرى أن الأضداد تتحد في وحدة واحدة، ووصل لهذا
ببصيرته العميقة ووعيه الثاقب. يرى هرقليطس أن هذه الوحدة توجد في الله أو في
النار، التي يعتبرها رمزًا للمبدأ الأساسي الذي يتحكم في كل الأشياء التي
تتغير باستمرار .
بالتالي، رغم أن هرقليطس كان يتبع الفلاسفة الأوائل في بحثهم عن أصل
الأشياء، إلا أنه كان أكثر عمقًا منهم. فهو لم يعتبر النار مجرد مبدأ، بل
رمزًا لله الذي يجمع بين المتناقضات .
يعتقد هرقليطس أن الأضداد تتحد في وحدة واحدة، وهو يرى أن هذه الوحدة تكمن
في الله أو في النار، التي يعتبرها مبدأً أساسياً يتحكم في كل شيء يتغير. على
الرغم من أنه تابع الفلاسفة الأوائل في البحث عن أصل الأشياء، إلا أن فهمه
كان أعمق، حيث اعتبر النار رمزًا لله الذي يدمج بين المتناقضات .
ثم ظهرت المدرسة الفيثاغورية التي تؤكد أن "كل شيء هو العدد". ويعني هذا
القول، بحسب أرسطو، تفسيرين: الأول، أن الفيثاغوريين يرون أن جوهر الأشياء هو
العدد نفسه. الثاني، أن الأشياء تشابه العدد، والعدد هو النموذج الذي تقاس
عليه الأشياء .
ومع كلا التفسيرين ننتهي إلى أن الفيثاغوريين يؤكدون أن العدد هو جوهر
الأشياء ويجب أن تفهم الأعداد كالصور بالنسبة إلى الأشياء. والحقيقة أن هذا
الوعي الفيثاغوري يتسم بغموض شديد، فكيف يمكن النظر إلى الأعداد بوصفها جوهر
الأشياء إذا لم تكن تملك مقدرات علية تهب الموجودات تحققها ؟
ويحاول فردريك كوبلستون حل هذه المسألة بتأكيده أنه إذا كانت الأشياء هي في
أساسها أعداداً، فهذا يعني أن الأجسام كافةً تتألف من نقاط أو وحدات وبهذا
المعنى فلا بد أن ينظر إلى جميع الأجسام على أنها تنحل إلى هذه النقاط أو
الوحدات التي هي بمثابة مبادئ أولية لها ". ولم يكتف الفيثاغوريون بإعلانهم
أن العدد هو أصل أو مبدأ الأشياء، بل حملوا عليه طابعاً قدسياً .
إذا كان الفلاسفة الملطيون قد اعتبروا أن كل شيء يتكون من مادة واحدة،
وهرقليطس رأى أن النار هي أصل الأشياء، والفيثاغوريون اعتبروا العدد هو أساس
كل شيء، فإن الإيليين نظروا إلى الوجود كوحدة كاملة ثابتة .
الايليين رأوا أن الله والوجود متحدان في سكون تام، على عكس هرقليطس الذي
اعتبر أن الله يحتوي على الأضداد ويعيش في صراع وتغير مستمر.وعلى أي حال،
فإنَّ وحدة الوجود الإيلية تعود أصلاً إلى أكسانوفان وبرمنيدس اللذين "
يعتبران الله والوجود شيئاً واحداً .
والحقيقة أنه مع برمنيدس ارتفع الوعي الفلسفي إلى مستوى التجريد الحقيقي.
وآية ذلك أنه لم يقبل إلا القول بمفهوم الوجود المحض الذي يناقض الكثرة وإن
كانت ناجمة عنه، لكن عرضياً.
ويتبين أن برمنيدس انتقل بقوة وعيه الهائلة من الكثرة والجزئيات والتعينات
الوجودية إلى أن وصل إلى مجموعة من الصفات الأساسية التي أوضحت معنى الوجود
بوصفه مفهوماً .
ويعود العلم الطبيعي إلى الظهور مرة أخرى بعد الأيونيين على أيدي ثلاثة
فلاسفة هم: أنبادوقليس ( ٤٩٠ - ٤٣٠ ق.م) وأنكساغوراس (٥٠٠-٤٢٨ ق.م)
وديموقريطس (٤٧٠ - ٣٦١ ق.م) .
وقد نزع أنبادوقليس إلى أن يرد الوجود في جملته إلى مبدأ، ولكنه لاحظ في
معرض تفسيره للتغير أن مبادئ الوجود كثيرة. وبالتالي المبدأ ليس واحداً. ومن
هنا يمكن حسبان أنبادوقليس صاحب مذهب كثرة في تفسير الوجود .
وسبب ذلك أنه " يرد الأشياء إلى أصول أربعة هي الماء والهواء والنار
والتراب؛ ويضيف إليها مبدأين غير ماديين هما المحبة والغلبة (الكراهية)،
ليفسر بهما الأشياء وكيفية وجودها في العالم .
وهذه العناصر بسيطة لا يمكن تحليلها إلى أبسط منها أو رد أحدها إلى الآخر .
والواقع أن استخدام أنبادوقليس للمحبة والكراهية بوصفهما المبدأين الأساسيين،
في تفسير اجتماع وتفرق المبادئ الأخرى وبالتالي الموجودات الطبيعية يدل على
استخدام" العاطفة" كأساس لوعيه الفلسفي من جهة أنها شعور إنساني يمكن إسقاطه
على مبادئ الوجود من أجل تفسير ظاهرة الكون والفساد .
وهذا عموماً يفضي إلى إقحام التفكير الأخلاقي في العلم الطبيعي، ما يعني "
أن التصورات الأخلاقية هي التي أعطت لأنبادوقليس فكرة المبادئ الطبيعية،
فالأخلاق عنده كانت إذاً المصدر الذي عنه صدرت الأفكار الطبيعية ".
أنكساغوراس قدم فلسفة تعتمد على ثلاث أفكار رئيسية: أولاً، أن الأشياء تختلف
عن بعضها بطبيعتها. ثانياً، لا يمكن للوجود أن يأتي من عدم. ثالثاً، كل شيء
يتولد من كل شيء، أي أن جميع الأشياء يمكن أن تتحول إلى أي شيء آخر.
بمعنى آخر، يعتقد أنكساغوراس أن الأشياء تحتوي على خصائص مختلفة، وأن الوجود
يتكون من مبادئ غير محدودة، وهي عناصر أساسية تتواجد بنسب مختلفة في كل جسم.
هذه العناصر تؤدي إلى تكوين الكون والتغيرات التي تحدث فيه. العقل هو العنصر
الذي ينظم هذه المبادئ لتكوين الموجودات .
رغم أن أنكساغوراس اعتمد على العقل في تفسيره، إلا أن أرسطو وسقراط
الأفلاطوني انتقداه لأنه لم يستفد من العقل بشكل كبير. ومع ذلك، استفاد أرسطو
وأفلاطون من فكرة العقل عند أنكساغوراس، وأضافا مفهوم العقل إلى الإنسان، مما
أظهر أن فكرة العقل كانت لها تأثيرات مهمة في تطور الفلسفة .
ديموقريطس، الذي تتداخل أفكاره مع أفكار فيلسوف مجهول يدعى لوقيبوس، يرى أن
كل شيء يتكون من ذرات غير قابلة للتقسيم من حيث جوهرها. على الرغم من أن
الذرات يمكن تقسيمها هندسياً لتكوين تشكيلات مختلفة، إلا أنها تظل غير قابلة
للتجزئة من حيث حقيقتها الأساسية. بين هذه الذرات يوجد فراغ، والذرات أزلية،
أبدية، لا نهائية من حيث العدد والنوع، وتختلف في الشكل والحجم .
ديموقريطس ينكر وجود قوى عناية أو تحكم في العالم، ويعتقد أن الضرورة هي
التي تدفع الذرات للتصادم والاندماج لتكوين كل شيء. بذلك، تنتهي مرحلة
الفلاسفة اليونانيين قبل سقراط، والتي كانت مرحلة مهمة لأنها وضعت الأسس
الأولى للفكر الفلسفي وأعطته هويته الخاصة .
في مرحلته الأولى، كان الوعي الفلسفي اليوناني يركز على تفسير الطبيعة
الخارجية من خلال تبسيط كثرة الموجودات إلى عنصر مادي أساسي, هذا العنصر كان
يُعتبر مبدأ أو سببًا للوجود, لكنه (العنصر) ظل في إطار الطبيعة ولم يرتق إلى
ما هو فوق الطبيعة .
كان الفلاسفة هم طاليس، الذي قال بالماء كمبدأ، وانكسيمندريس، الذي قال
بالأبيرون، وأنكسمانس، الذي قال بالهواء، لم يضيفوا طابعًا مثاليًا لمبادئهم
.
الفلاسفة في هذه المرحلة كانوا يهتمون فقط بالطبيعة الخارجية والظواهر التي
تصدر عنها، دون التفريق بين الطبيعة الداخلية والخارجية, كما أنهم (الفلاسفة) لم يستفسروا عن قدراتهم المعرفية أو يعترفوا بدور الذات
في تصور الأشياء .
ومع ذلك، بعض الفلاسفة مثل برمنيدس، الذي طور مفهوم الوجود، وانكساغوراس، الذي أدخل مفهوم العقل، وأنباذوقليس، الذي عمم المشاعر الأخلاقية على الكون، كانوا قادرين على التجريد والوصول إلى أفكار كلية مثل فكرة الضرورة التي أكدها كل من أنكسيمندريس، هرقليطس، وديموقريطس .
الوعي الفلسفي اليوناني في الدور الثاني-البحث عن ماهيات للوجود
بينما كان الفلاسفة قبل سقراط يركزون على دراسة الطبيعة الخارجية والكون، جاء السوفسطائيون واهتموا بالذات الإنسانية وطبيعتها الداخلية. بذلك، نقلوا الوعي الفلسفي إلى دراسة الذات الإنسانية، وبدؤوا المرحلة الثانية من الفلسفة اليونانية التي انتهت مع أرسطو .
والواقع أن بروتاغوراس قد أسس على مقولة هرقليطس "إن التغير متصل " وهذا يعني أن الحقيقة أيضاً هي نفسها خاضعة لهذا الأمر، فالحقيقة متغيرة ولا وجود للحقيقة المطلقة، "وأما ما يسميه كل واحد منا حقيقة فهو ما يظهر له في الوقت الذي يتكلم فيه، أو حينما يصغي إلى خطيب ماهر " .
ويضع سوفسطائي آخر هوجورجياس ثلاث قضايا أساسية مشهورة شهرة كبيرة تلخص مذهب السوفسطائيين :- لا يوجد شيء .
- إذا وجد شيء فالمرء قاصر عن إدراكه .
- لو سلمنا بأن أمرءاً ما أدرك هذا الشيء، فإنه لن يقدر على أن يوصله لغيره من الناس .
ويظهر أن هذه القضايا تنطوي على أستهتار بقدرة الوعي الفلسفي على كشف حقائق الأشياء , وأرتأى عثمان أمين أنه " إن صح للسوفسطائيين مدرسة فهي مدرسة ينقصها الجد الفلسفي والأمانة العقلية فلا عجب أن نزعتها هذه قد ألحقت بالعقلية اليونانية أضراراً كثيرة بليغة "
ويشايع يوسف كرم عثمان أمين على هذا الرأي، فيقول عن السوفسطائيين: "مهما يقال عن أنهم أخرجوا الثقافة من المدارس الفلسفية ونشروها في الجمهور، وأنهم مهدوا للمنطق والأخلاق، فقد كادوا يقضون على الفلسفة لولا أن أقام الله سقراط، ينتشلها من هذه الورطة المهلكة".
ومهما يكن من أمر هذا النقد، فإن الحركة السوفسطائية تجد من يدافع عنها، فها هو برتراند رسل يؤكد أن الكراهية التي تعرض لها السوفسطائيون، لا من غمار الناس وحدهم، بل من أفلاطون وسائر الفلاسفة اللاحقين، كانت ترجع إلى حد ما ـ ولو أنه يستحيل علينا أن نحدد إلى أي حد كان ذلك - ترجع إلى تفوقهم العقلي .
يتضح من هذا أن السوفسطائيين اجترحوا لأول مرة في تاريخ الوعي الفلسفي اليوناني مسألة نسبية الحقيقة، بل سخفوا من قدرها. وهنا يظهر سقراط ليدافع عن الوعي الفلسفي الحق ضد السوفسطائيين .
سقراط ركز على دراسة الذات الإنسانية بدلاً من قضايا الطبيعة الخارجية، وهو ما يشترك فيه مع السوفسطائيين. بينما كانت فلسفة أسلافه تتعلق بالكون وتفاصيله، تحول اهتمام سقراط إلى الإنسان وحياته، فكان موضوع فلسفته يتعلق بدراسة الطبيعة البشرية وليس بالكون .
سقراط، بشكل خاص، ركز على دراسة الإنسان وأعتبر أن الفلسفة الحقيقية تتجلى في فهم العلاقة بين المعرفة والفضيلة. وفقًا له، الفلسفة ليست مجرد بحث نظري، بل تتطلب أيضًا نشاطًا عمليًا يتمثل في سيرة حسنة وأعمال صالحة .
سقراط يرى أن المهمة الأساسية للوعي الفلسفي هي معرفة الفضيلة، مما يتطلب التركيز على الذات وتصرفاتها وفقًا لقيم ومعايير أخلاقية. وفقًا له، الفضيلة هي نوع من العلم، والعمل الصالح لا يتم بدون العلم، والعلم يوجه العمل الصحيح .
يمكن القول إن سقراط بحث في الأخلاق وابتكر طريقة لتحديدها من خلال أسلوبه الجدلي، الذي يبدأ بمقدمات متعددة ليصل إلى نتائج عامة. لكن هذه النتائج ليست مطلقة، بل هي استنتاجات شاملة تعتمد على النقاش والتحليل .
وهذا ما أكده أرسطو عندما نسب إلى سقراط إبداعين فلسفيين منهجيين أساساً هما : الدليل الإستقرائي والتحديد الجامع، وكلاهما متصل بنقطة انطلاق العلم، ويضيف إلى ذلك (أي أرسطو) استدراكاً هو أن سقراط لم يذهب مع ذلك إلى أن الكليات أو التعاريف توجد مفارقة، كما رأى أفلاطون فيما بعد .
ويأتي أفلاطون تلميذ سقراط محضراً معه أمراً على جانب كبير من الأهمية وهو تحديد كيفية تكوين الوعي الفلسفي أي تحويل الوعي الفلسفي إلى محصلة السلسلة من العمليات التعليمية المتدرجة .
فبعد أن كان الوعي الفلسفي ناجماً عن مواجهة مباشرة مع الوجود من أجل اكتناهه في الدور الأول من تاريخ الوعي الفلسفي اليوناني، صار هذا الوعي عينه مع سقراط معرفة الفضيلة، أي صار محدداً، ومع أفلاطون ارتفع مستوى هذا التحديد
ذلك أن معنى الفلسفة عنده هو صياغة النفس صياغة جديدة وتحويلها نحو المثل العليا وخدمة الإنسانية، ولن يكون الإنسان فيلسوفاً على الحقيقة إلا إذا كانت الأفكار نابعة من صميم نفسه، معبرة عن اعتقاده، أما إذا ردد صدى غيره فلن يكون فيلسوفاً، ولن تكون ثمة فلسفة ".
أفلاطون استخدم أسلوبًا دوغمائيًا لرفع الوعي الإنساني العادي إلى مستوى الفلسفة، حيث اعتقد أن الفنون الجميلة هي البداية التي تشعل الشرارة نحو التفلسف. بمعنى آخر، رأى أفلاطون أن الفلسفة تحتاج إلى تسلسل تعليمي للوصول إليها .
فعلى الإنسان أن يتعلم في شبابه" الشعر والموسيقى والرقص ثم الرياضة البدنية ثم العلوم الرياضية كالحساب والهندسة. وأخيراً في الخامسة والثلاثين يبدأ الإنسان في تعلم الفلسفة ".
وسبب عد أفلاطون للفن المدخل الأول للفلسفة هو أنه سبيل تمهيدي، من جهة أنه يقدم منتوجات أو مصنوعات فنية موسومة بميسم الجمال. وترتفع درجة الجمال وصولاً إلى الجمال الحقيقي .
هذا الجمال هو أولاً وقبل كل شيء جمال خالد لا يخضع لكون أو فساد، ولا يجوز عليه نمو أو ذبول. وهو ثانياً ليس جميلاً في ناحية من نواحيه، وقبيحاً في ناحية أخرى، وليس جميلاً في آن وقبيحاً في آن آخر، وليس جميلاً بالنسبة إلى شيء، وقبيحاً بالنسبة إلى شيء آخر، جميلاً في مكان وقبيحاً في مكان آخر .
ولا يختلف هذا الجمال باختلاف الناظرين إليه، أو باختلاف الجهة التي ينظرون منها. لا تجد له شبيهاً في جمال وجه أو جمال يدين أو جمال جسم، أو شبيهاً بجمال فكرة أو جمال علم. فهو جمال مطلق لا يوجد إلا بذاته، وكل شيء جميل يشارك فيه .
وهنا يظهر أن الوعي الفلسفي يتكون بتأمل أنواع الجمال بدءاً من أكثرها تشخيصاً، وصولاً، إلى أكثرها تجريداً، وهنا تتم رؤية فلسفية لمثال الجمال أو صورة الجمال الحقيقي .
ذهب أحمد فؤاد الأهواني إلى أن هذه الرؤية ليست ثمرة استدلال وتركيب مقدمات، بل هي أشبه بالكشف الصوفي من خلال الاتصال المباشر بالحقيقة العليا. لا تتم هذه الرؤية إلا بعد أن تتحول النفس بكليتها وتتجه نحو مثال الجمال أو الخير أو الحق، تمامًا كما يتجه الإنسان بجسمه نحو المحسوسات ليبصرها .
وظيفة الفلسفة، حسب الأهواني، هي تدبير النفس من التعلق بالمحسوسات وتحويلها إلى المعقولات، حتى تتمكن من الحصول على هذه الرؤية .
وها هنا يلاحظ أنه لأول مرة في تاريخ الوعي الفلسفي يتعين موضوعه الحق على أنه مفارق للعالم المحسوس، فهو ذو طبيعة معقولة، فالوجود الأنطولوجي الأصيل يقبع في عالم آخر هو عالم المثل
ونلاحظ أيضاً لأول مرة في تاريخ الوعي الفلسفي ازدراء تحييدياً للعالم المحسوس لإبعاده عن أن يكون موضوعاً أصيلاً للتأمل الفلسفي .
وانطلاقاً من هذا الوضع صارت الموجودات لا تأخذ معناها من طابعها الزماني وإنما من تعاليها، على ما هو زماني وبالتالي صار البحث، عن حقيقة سرمدية، هو الصواب، والتمسك بالمحسوسات المتزمنة شراً أكيداً .
وقد سيطرت هذه النظرة على تفكير الكثير من الفلاسفة وسيكون لها تأثير بالغ متصل في تشكيل وعي الفلاسفة، وصولاً، إلى يوم الناس هذا .
وهنا لاحظ جان فال وبحق أنه عند الفلاسفة القدامي بشكل خاص "لم يكن للزمان أية أهمية . إذ بدت الأحكام الأخلاقية والجمالية والرياضية في نظرهم فوق كل زمان والفعل يعد خيراً بسبب مشاركته في الخير. ويعد الشخص جميلاً، لأنه يشارك في الجمال. أما الحقيقي فهو الجمال والخير .
ومن ثم لم يكن للزمان في ذاته أي أهمية سالبة - كما يمكن القول. فهو في ذاته تدهور وانحطاط. ولذا على المرء ألا يبحث عن الحقيقة إلا في الماضي، أو في الماضي الأزلي، أو دون نظر إلى الزمان، وأي تقدم في الزمان، يعرضه فوق هذا إلى تدهور أشد .
هذا يعني أن العالم المزمن هو القائم على التغايير والاستحالات ولا جدوى، من التعويل عليه، في الوصول إلى الحقيقة؛ أما الحقيقة الأصلية، فتكون، في الثابت، أو الأزلي، أي في المثل أو الصور .
ولذلك بلوغ عالم المثل هو قوام الوعي الفلسفي ولا يمكن للإنسان أن يبلغ عالم المثل، إلا إذا تذكر الحقائق المعقولة الأزلية بمناسبة المحسوسات، فينتقل من المحسوس إلى المعقول أو من الشيء إلى مثاله .
وإذا كان الإنسان قادراً على تذكر المثل بمناسبة المحسوسات، فهذا يعني أنه عاش في حياة سابقة أو ماضية بطريقة كان فيها قادراً على معاينة المثل .
وتذكر المثل بعامة يؤول بالإنسان إلى معرفة مثال الخير بخاصة، الذي يحتل مكانة هائلة في فلسفة أفلاطون، لأنه علة المثل الأخرى، بله علة الوعي الفلسفي أيضاً. ومرد ذلك إلى أن "ما يضفي الحقيقة على موضوعات المعرفة، وما يضفي ملكة المعرفة على العارف، هو مثال الخير. فهو علة العلم والحقيقة .
وبالجملة، يمكن القول إن هذا التقديس للخير عند أفلاطون ناجم عن حسبانه له المعنى الأكثر أخلاقية للوجود .
يستخدم أفلاطون مثالاً لتوضيح قدسية الخير، قائلاً إنه كما يظن الإنسان في العالم المحسوس أن النور والإبصار يشبهان الشمس، لكنه يخطئ إذا ظن أنها الشمس نفسها، يجب على المرء في العالم المعقول أن يرى العلم والحقيقة كشباه للخير، لكنه يخطئ إذا اعتقد أن أيًا منهما هو الخير ذاته. فالخير يجب أن يكون أعلى من ذلك .
ويفهم من هذا الكلام أن الخير هو الأعلى دائماً في الفلسفة الأفلاطونية فيحتل رأس الهرم، ولكن هناك من يرى أن مثال الخير، على الرغم من أهميته عند أفلاطون، إلا أنه يأتي في المرتبة بعد الإله .
وفي هذا السياق يقول سليمان ضاهر: " لقد تناول أفلاطون دراسة الموجود وتحليله بطريقة تراتبية هرمية قيمية من الأدنى حيث الموجود الحسي المتغير مروراً بالموجود الثابت " الخير الأسمى" لينتهي في الأعلى بـ " الموجود الأنطولوجي الإله".
فالسياق العام للفكر الأفلاطوني يكشف عن درجات للموجود، أو عن مراتب متدرجة من اللاموجود الأشباح والظلال إلى الموجود الكامل الشامل .
ونجد مصطفى حسن النشار قد ذهب هذا المذهب نفسه عندما أشار : " فالإله لديه (أي أفلاطون) كما نرى - رغم أنه لم يقرر ذلك صراحة - ليس " الصانع" وليس " الخير" وليس " الأب " وليس " القبطان" وليس "الواحد"، بل هو الإله الذي يتصف بأنه صانع وخير وأب للعالم وقبطان الأشياء وواحد، وما الآلهة الأخرى المتعددة إلا آلهة ثانوية أوجدها هذا الإله لتساعده في إيجاد العالم ".
لكن الكثير من الباحثين يرفض هذه الرؤية. فـ "جيروم غيث" رأى إلى أن مثال الخير هو " قيمة القيم لأنه القيمة الأولى الخلاقة. فإذا نحن لم نفهم هذا المعنى القيمي لفلسفة المثل والمشاركة أضعنا كل معناهما ".
وأكد عبد الرحمن بدوي أننا نجد في "محاورة طيماوس" نزعة دينية واضحة "خلاصتها أن الله هو الخير، وأنه يصدر عنه الوجود لأنه خير، والخير يقتضي الفيض والجود، وعن هذا الجود ينشأ العالم " , ويشير أحمد فؤاد الأهواني إلى أن " الله هو مثال الخير ".
وبناء على ذلك فلا غرابة أن تكون الفلسفة هي التشبه بالإله بقدر الطاقة الإنسانية وهو تعريف ساد عند الفلاسفة الإسلاميين، وقد نقلوه عن أفلاطون حيث يقول في الجمهورية: " ولن تتخلى الآلهة عن الرجل الذي عقد على العدل قلبه، وكان ساعياً على نهج الفضيلة إلى التشبه بالإله بقدر الطاقة الإنسانية .
ويبدو جلياً أن أفلاطون هنا ينزع منزعاً صوفياً يهبب بالنفس الإنسانية نحو "الاهتداء بنور الخير أو الإله" إلى الحقائق الثابتة الموجودة في النفس وجوداً أزلياً .
وهنا تظهر فكرة على درجة عالية الأهمية، وهي وضع غاية للإنسان حتى يتوجه إليها؛ بل إن أفلاطون يرى أن الغاية النهائية للعالم والإنسان هي الخير .
وبالجملة، غاية الكون هي الخير . " فأفلاطون، الذي يعتبر من غير شك أول فيلسوف غائي في تاريخ الفلسفة، يرى أن كل شيء قد ظهر في الوجود، وكل شيء يتم كمال وجوده، يكون ظهوره وكمال وجوده وفقاً لغاية معينة، وعلى صورة مطابقة للمثل التي هي النماذج الثابتة للأشياء .
ولكن في الوقت نفسه يرى أن كل ما يظهر في الوجود يظهر مباشرة نتيجة للعلاقات العلية الضرورية. ثم هو يفرق من ناحية أخرى بين المعقول والمحسوس .
على أساس أن العالم المعقول خاضع لمبدأ العقل والغاية، في حين أن العالم المحسوس خاضع لمبدأ الضرورة العمياء .
وهنا يفترق أفلاطون عن الفلاسفة اليونانيين الأوائل في أنه تجاوز الضرورة التي تسود عالم الطبيعة الحسية إلى ضرورة أخرى عقلية لها معنى مفارق للطبيعة الحسية .
واستناداً إلى المعطيات السابقة، نلاحظ أن أفلاطون أراد من الوعي الفلسفي أن يكون ناجماً عن سلسلة من العمليات التعليمية المتدرجة حتى يبلغ المتعلم أخيراً الحقيقة الثابتة. وبذا نصب أفلاطون نفسه مرجعاً في هذا الموضوع .
أضف إلى ذلك أن الموضوع الحقيقي الأصيل للوعي الفلسفي هو العالم الثابت، أي عالم المثل المعقول. وقد أفضى هذا الأمر إلى تقسيم الوجود إلى محسوس ومعقول، والمحسوس لا قيمة له إلا بإسهامه في انقداح العقل نحو المعقول، وبالتالي لا توجد أية أهمية للعالم الذي نعيش فيه لأنه عالم الكون والفساد .
ومن هنا ظهرت بوادر التفريق بين الحقيقة والزيف بين الأزلي والزماني بين النفس والجسد. ويُلاحظ أن قوام الوعي الفلسفي لأفلاطون هو مزج الأخلاق بالميتافيزيقا من أجل الوصول إلى مثال الخير بوصفه العلة العليا للوجود والحقيقة وهنا يتوصل الوعي الفلسفي إلى منعرج خطير يربط بين المعنى الميتافيزيقي للوجود والاعتبارات الأخلاقية.
بيد أن هذا الاحتقار الشديد للعالم المحسوس من قبل أفلاطون دفع تلميذه أرسطو إلى أن يأخذ على معلمه أفلاطون ازدراءه بعالم الحس - أو الصيرورة - وانصرافه إلى البحث عن طبيعة الأشياء في عالم مفارق لهذا العالم، لا ينبئنا بنوع صلته بعالمنا هذا على وجه صحيح .
لقد اختلف أرسطو عن أفلاطون في مقاربته للوجود، حيث رفض فكرة المثل أو الصور المجردة التي تتجاوز المحسوسات، وركز بدلاً من ذلك على دراسة العلل والمبادئ الأساسية التي تشكل العالم المحسوس, تميز تفكير أرسطو الفلسفي بتركيزه على عالم الوجود الجزئي المحسوس كموضوع أساسي للبحث الفلسفية .
أرسطو اعتبر أن الوجود الحقيقي ليس مفارقًا للجزئيات المحسوسة. بينما أفلاطون اعتقد في وجود المثل حقائق مطلقة مستقلة عن الواقع الحسي، رأى أرسطو أن الوجود الجزئي، أي العالم الذي نعيشه وندركه بحواسنا، هو الموضوع الأهم للفلسفة .
أرسطو أكد أن الفلسفة هي دراسة العلل والمبادئ الأولى التي تشكل العالم. في حين ركز الفلاسفة الطبيعيون السابقون على العلة المادية فقط، مثل الماء عند طاليس أو الهواء عند أنكسيمانس، قدم أرسطو نظرية تشمل أربعة أنواع من العلل :
- العلة المادية: المادة التي يتكون منها الشيء.
- العلة الصورية: الصورة أو الشكل الذي يأخذ الشيء بسببه وجوده.
- العلة الفاعلية: السبب الذي يسبب حدوث الشيء.
- العلة الغائية: الغاية أو الهدف من وجود الشيء.
بالنسبة لأرسطو، فإن الجوهر يتكون من المادة والصورة. المادة هي القوة التي تأخذ شكل الصورة، والصورة هي الفعل الذي يحقق الوجود. بالنسبة للجوهر المحسوس، المادة والصورة ضروريان لحدوثه. بينما الأجرام السماوية، التي تتكون من الأثير، تعتبر غير قابلة للتغير سوى في الحركة المكانية .
أرسطو يميز بين عالم الصيرورة، الذي يشمل جميع أشكال التغير، والعالم المفارق، الذي يشمل الجواهر الثابتة. الجواهر، سواء كانت حسية أو مفارقة، تعتبر المحور الأساسي لفهم الوجود. الجواهر الحسية تشمل الأجسام الطبيعية والأجرام السماوية، بينما الجواهر المفارقة لا تتعرض للتغير .
أرسطو يرى أن الحركة تتطلب محركًا. في نظره، يجب أن تنتهي سلسلة المحركات إلى محرك أول، وهو إما السماء الأولى أو الله. الله، بالنسبة لأرسطو، هو السبب النهائي وراء الحركة والعلة الغائية للكون .
أرسطو يرى أن الكون أزلي وأبدي. يعتقد أن العالم غير مخلوق وأن الحركة فيه لا تنقطع. الله، كعقل محض، يعقل ذاته فقط، ويعد العلة الغائية للكون .
أرسطو تجاوز الفلاسفة السابقين بتقديمه مفهومًا شاملاً للوجود والجوهر . وبينما اعتمد على المبادئ الطبيعية لشرح الحركة والوجود، فقد خلط بين الفلسفة الميتافيزيقية والعلم الطبيعي.
على عكس أفلاطون، الذي ركز على المثالية، كان أرسطو أكثر توجهًا نحو الواقعية الطبيعية، مما جعله يقدم رؤية متكاملة لدراسة الوجود والعلة .
يمكن القول إن فلسفة أرسطو تركز على دراسة العلل والمبادئ الأساسية للوجود، وتقدم فهمًا عميقًا لمفاهيم الحركة والجوهر. برؤيته المنطقية والواقعية، أسس أرسطو نظريات فلسفية استمرت تأثيراتها في الفلسفة الغربية لقرون عديدة .
في الدور الثاني من تطور الفلسفة اليونانية، نجد تحولًا كبيرًا من التركيز على الطبيعة إلى الاهتمام بالذات الإنسانية. هذا التحول يعكس اهتمام الفلاسفة بتوجيه الوعي نحو الإنسان ككائن اجتماعي وعملي .
وفقًا لما ذكره ثيودور أويزرمان، فقد ساهم السفسطائيون في تطور الفكر الفلسفي من خلال الجمع بين الحكمة والمعرفة والقدرة على البرهنة .
في أثينا القديمة، كانت المعرفة العملية ضرورية للمشاركة في الشؤون العامة، مثل الاجتماعات والمحاكم. وقد ساعد السفسطائيون في تعزيز الفكر المنطقي ومرونة المفاهيم، مما مكن الناس من التعامل مع قضايا لم تكن واضحة من قبل .
على الرغم من إسهامات السفسطائيين، فقد ذهب سقراط أبعد في استكشاف الذات الإنسانية، ولكن من منظور أخلاقي. سقراط ركز على أهمية معرفة الفضيلة وتطوير الذات .
هذا التحول في الفلسفة اليونانية انتقل من القضايا الكونية إلى القضايا الأخلاقية والذاتية، مما أبرز نسبية الحقيقة عند السفسطائيين ووحدة المعرفة والفضيلة عند سقراط .
أفلاطون وأرسطو، بعد سقراط، ركزوا أيضًا على البحث في الماهيات ووجودها الحقيقي. بينما كان أفلاطون يرى أن الصور هي المثل العليا، كان أرسطو يعتقد أن الصورة والهيولى (المادة) موجودتان معًا. أرسطو اعتبر الوجود الحقيقي هو الوجود الذي يتضمن الصورة والهيولى، مما يجعله في بعض الأحيان أقرب إلى المثالية .
سقراط رأى أن المعرفة الحقيقية تتعلق بالماهية، وهو ما يتوافق مع مفهوم أفلاطون للعلم كعملية تذكر للمثل. أما أرسطو، فقد تناول المعرفة البرهانية كأداة لفهم المبادئ الأساسية، مما يضيف بُعدًا آخر إلى بحث المعرفة .
أفلاطون ربط بين نظرية الوجود والأخلاق، من خلال مثال الخير، واعتبر أن المعرفة الحقيقية تمر عبر فهم المثل. أرسطو، من جانبه، ربط بين الطبيعة والميتافيزيقا والأخلاق، معتبرًا أن الكون الطبيعي يتوق إلى الخير والعلة الغائية .
في النهاية، يظهر أن الفلسفة اليونانية في دورها الثاني قد وصلت إلى قمة تطورها من خلال الجمع بين المنطق والعلم الطبيعي والميتافيزيقا، متجهة نحو تحقيق فهم عميق للوجود والمعرفة. هذا التطور يعكس التوجه الفلسفي نحو نظام معرفي متكامل يعزز الفهم الكامل للإنسان والطبيعة والوجود .
الوعي الفلسفي اليوناني في دوره الثالث-التوجه نحو الحكمة العملية والزهد
وصلت الفلسفة اليونانية إلى قمة عظمتها مع أرسطو، حيث كان التأمل في المشكلات الأنطولوجية والميتافيزيقية في أوجه. لكن بعد أرسطو، شهدت الفلسفة اليونانية تحولاً جذرياً .
بدلاً من الاستمرار في
التركيز على القضايا العقلية والميتافيزيقية، تحول الوعي الفلسفي إلى الاهتمام
بالمعايير الأخلاقية وضبط السلوك الإنساني، مما أعطى الفلسفة طابعاً عملياً .
أحد أبرز التحولات في هذا الدور كان على يد الأبيقوريين، الذين ركزوا على النفعية العملية للفلسفة. لقد أنكر الأبيقوريون فكرة العلم لمجرد العلم، وأكدوا أن العلم يجب أن يؤدي إلى السعادة من خلال التطبيق العملي .
أبيقورس، زعيم المذهب الأبيقوري، اعتبر أن
الفلسفة هي حكمة عملية تهدف إلى تحقيق السعادة .
قسم أبيقورس الفلسفة إلى
ثلاثة علوم رئيسية: العلم القانوني (المنطق)، العلم الطبيعي، والأخلاق. اعتبر
الأخلاق هي ذروة الفلسفة، بينما يرى أن المعرفة الحسية والتصورات تلعبان دوراً
أساسياً في بناء المعرفة. ولكن، وفقاً للأبيقوريين، فإن المعرفة المطلقة غير
ممكنة ويجب أن تركز الفلسفة على السعادة من خلال اللذة .
على الجانب الآخر، قدم الرواقيون فلسفة
مختلفة تركز على العلم الكلي والحكمة. طبق الرواقيون تقسيم الفلسفة إلى المنطق
والطبيعة والأخلاق، لكنهم رأوا الفلسفة كوحدة متكاملة. حسب الرواقيين، الفلسفة
هي علم الأشياء جميعاً، من الآلهة إلى الطبيعة والإنسان .
رأى الرواقيون أن المعرفة تنبثق من الحواس، وأكدوا أن الفهم والعلم يأتيان بعد التصديق. كما اعتقدوا بوجود نوع من وحدة الوجود، حيث يتجلى الله في الطبيعة والعالم ككل .
كان
الهدف من الفلسفة الرواقية هو العيش في وفاق مع الطبيعة، وهذا يتطلب قبول القدر
والخضوع للعقل الكلي الذي يحكم الكون .
مع الأفلاطونية المحدثة، ظهرت نزعة جديدة تعتمد على مزج الفلسفة بالأفكار الصوفية الشرقية. لم تكن الأفلاطونية المحدثة فلسفة بالمعنى التقليدي، بل كانت تجمع بين التفكير الأفلاطوني والحكمة الشرقية في إطار صوفي .
كان الهدف
من الفلسفة الأفلاطونية المحدثة هو تحقيق الخلاص والاتحاد بالله من خلال التأمل
الفلسفي .
أفلوطين، أحد أبرز فلاسفة الأفلاطونية المحدثة، اعتبر أن الفلسفة هي وسيلة لتحقيق الوحدة مع الأول (الله). طبق أفلوطين مفهوم وحدة الوجود، حيث يتجلى الله في الكون وفي كل شيء. الفلسفة هنا تحولت إلى مسعى صوفي للارتقاء نحو الكمال من خلال التركيز على الله والابتعاد عن العالم المادي .
في الوعي الفلسفي اليوناني
في دوره الثالث، نلاحظ تحولاً واضحاً نحو الجوانب العملية والروحية. بينما كان
الدور الأول والثاني يركزان على النزعة الطبيعية والميتافيزيقية، فإن الدور
الثالث يظهر إهمالاً للناحية الطبيعية لصالح الروحانية. كانت الفلسفة هنا تسعى
إلى تحقيق السعادة أو الطمأنينة من خلال اللذة أو الوفاق مع الطبيعة أو الاتحاد
بالله .
تجلى تأثير الثقافة الشرقية في الفلسفة اليونانية خلال هذه الفترة،
مما أدى إلى مزج الأفكار وتجربة فلسفية جديدة. ومع ذلك، يبدو أن هذا التزاوج
بين الفلسفة اليونانية والتأثيرات الشرقية أدى إلى نوع من الاضمحلال، مما أثر
على تطور الفلسفة اليونانية وانتقالها إلى العصر الوسيط.
الوعي الفلسفي اليوناني في دوره الثالث يمثل تحولاً كبيراً نحو الفلسفة العملية والزهد. بينما كان الأبيقوريون يركزون على السعادة من خلال اللذة، كان الرواقيون يسعون للانسجام مع الطبيعة، والأفلاطونيون المحدثون يبحثون عن الاتحاد بالله. يمثل هذا التحول تأثراً بالثقافات الشرقية وانعكاساً للبحث عن الطمأنينة الروحية بدلاً من التأمل العقلي البحت .