المونادولوجيا و التناسق الازلي عند ليبنتز
لنظرية المونادولوجيا للفيلسوف وعالم الطبيعة والرياضيات ليبنتز أثرًا بالغًا في تاريخ الفكر الفلسفي في شكل عام, حيث أنها جاءت في وقت مثل منعطفًا لبداية التحرر من النهج اللاهوتي المسيطر على الخطاب الفلسفي .
والمونادولوجيا هو عنوان للكتاب الذي أصدره ليبنتز في العام 1714 م وأحد أشهر أعماله الفلسفية الاخيرة, وضع ليبنتز في هذا الكتاب مبادى فلسفته .
تطور مفهوم الجوهر - ما قبل مونادولوجيا ليبنتز
هناك عامل مشترك في جميع الفلسفات العقلية, هو فكرة الجوهر, الذي يمثل في
العصر الحديث أساس فلسفة ديكارت, بالتالي أن كثير من الفلسفات الحديثة
القائمة على فكرة الجوهر تكون قد تشعبت من فلسفة ديكارت, مثل فلسفة سبينوزا
وكذلك فلسفة ليبنتز .
فهناك صلة بين هذه الفلسفات تتمثل في الاساسيات والركائز التي قامت عليها
هذه الفلسفات وأهمها فكرة الجوهر كما ذكرنا أعلاه .
لم يكن موضوع الجوهر من اختراع ديكارت, ولكنه جدد هذا المفهوم القديم, وجاء
به بشكل مختلف عن الاصل الارسطي له . وفكرة الجوهر هذه قد أثارت أهتمام جميع
الفلاسفة, بين مؤيد لها من جانب ومعارض عليها من جانب أخر .
فمثلا أصحاب الاتجاه التجريبي قد عارضوا فكرة الجوهر, فهيوم قد عارض ونقض
فكرة الجوهر وهي لاتعدوا عنده مجموع صفات الشي .
أنتهي ديكارت الى وجود جوهرين أثنين مختلفين أشد الاختلاف في الكون رغم تعدد
مظاهره وتباين الاشياء الموجودة فيه, فكل عنصر في الكون هو أما أن يكون مادي
والصفة التي يتصف بها هو أن يشغل حيزًا في المكان أي الامتداد, أو عقلي
والصفة الاساسية التي يتصف بها هي الشعور والادراك .
فجميع العناصر الموجودة في هذا الكون يرجع أصلها أما الى المادة أو
العقل-الروح-, وهذه العناصر المادية (جميع العناصر المادية في الكون) هي عنصر
واحد ولكن له مظاهر مختلفة, والعقل كذلك عنصر واحد, وله مظاهره المختلفه
أيضًا .
أما الاختلاف الحقيقي عند ديكارت فهو الاختلاف الموجود بين المادة والعقل,
لا الاختلاف الموجود بين العناصر المادية نفسها كالشكل والحجم أو الاختلاف
الموجود بين العقول كالفكر والحكم .
ولا يوجد في الطبيعة المادية بحسب ديكارت إلا أجسام مشتركة في صفة الامتداد,
والاختلاف في هذه الاجسام ناتج عن الاختلاف في الحركة بين أجزائها .
فالله حينما خلق الكون, قسم المادة الى أجزاء متباينة ومختلفة في الشكل
والحجم, ثم بث مقدارًا من الحركة بين أجزاءها .
أما ما يخص العقل عند ديكارت, فأن صفته الاساسية هي الفكر كما ذكرنا, ولكن
ما هو العقل ؟ ما هو عقل الله, عقل الانسان ؟
أن صفة العقل الاساسية هي الفكر و هذا ينطبق على كل العقول حتى عقل الله,
وما أختلاف عقل الله عن عقل الانسان إلا في الحدية, فعقل الانسان محدود وعقل
الله لا محدود, تخيل عقلك بلا حدود وقيود فهذا هو عقل الله, والعكس صحيح أي
تخيل عقل الله بحدود وقيود فهذه صورة لعقل الانسان .
أما سبينوزا فقد دمج هذين الجوهرين في جوهر واحد يمثل حقيقة واحدة شاملة
وعنصر واحد لها وجهين تارة هو المادة وتارة أخرى هو الفكر , وبذلك يكون
الوجود شي واحد كما جاء في نظريته " نظرية وحدة الوجود ".
أي أن سبينوزا قد ذهب الى أن في الكون حقيقة واحدة لا عنصرين أو حقيقتين
بمثل ما ذهب ديكارت, هذه الحقيقة كامنة في الاشياء وكائنة وراء الاشياء
الفانية, أما الحقيقة فخالدة وباقية .
صحيح أن سبينوزا يرى أن الكون أو الطبيعة حقيقة واحدة, ولكن هذه الحقيقة لها
مظهرين وليس هي بحد ذاتها عنصرين, أنها عنصر واحد وحقيقة واحدة ولكن بمظهرين
.
لذلك نرى أن سبينوزا قد قسم الكون الى جوهر هو حقيقة لا مادة لها وعرض, أي
الى ما هو قديم وحاث, أي بمعنى الله والعالم المحسوس, وبالتالي سبينوزا يعتبر
الله هو نفسه العالم, فالله هو الجوهر والعالم هو العرض (الحادث) .
هذا ويعتبر سبينوزا أن قوانين الطبيعة هي نفسها أوامر الله, ومنشئ الاشياء
هو الطبيعة اللانهائية لله, وبالتالي كل أحداث العالم هي نتيجة لإرادة الله .
والعقل والمادة عند سبينوزا هما ليسا عنصرين مستقلين يمثلان جوهرين حقيقين
وعمليتين مختلفتين, يقول سبينوزا ليس هناك وجودان مادة وعقل, وأن ما يوجد هو
شيء واحد هو الكون فقط, ولكن نراه من الداخل فكرًا, ومن الخارج مادة .
وهذا العقل الذي يمثله الله, والمادة الذي تمثله الطبيعة, لا يوجد فرق
بينهما حسب سبينوزا, بل هما شي واحد بمظهرين .
ليبنتز هو الاخر الذي صاغ فلسفته وبناءها على نفس الاصل-الجوهر الديكارتي-
ولكن بمظهر مختلف, حيث يمثل مفهوم الجوهر عصب فلسفة ليبنتز, ولكنه أطلق عليه
أسم "المونادة" .
بينما يرى ليبنتز أن الوجود لا يتكون من حقيقة واحده كما عند سبينوزا, ولكنه
يتكون من حقائق متعددة لانهائية, أطلق ليبنتز على الواحدة من هذه الحقائق أسم
"المونادة", وبالتالي أن الكون يتكون من المونادات .
ماهي المونادات ؟
الكون هو عبارة عن مجموعة من المونادات متراتبة بشكل نسيج متراتب, المونادة
عند ليبنتز هي :-
- ذرات روحية وهي ليست مادية لا غاية لها كما هي عند الذريين, بل هي ذرات روحية حاسة واعية عاقلة ولو بتفاوت فيما بينها, ولكنها مدركة لغايتها .
- هي جوهر بسيط, لا شكل لها لا تفنى ولا تخلق .
- تتسلسل هذه المونادات بدأ من المونادات التي تكون الاجسام الجامدة, ثم مونادات النباتات ثم الحيوانات فالبشر, وصولا الى مونادات الله الذي يمثل المونادة الرئيسية .
- هذه الذرات الروحية التي يتألف منها الكون هي عوالم صغيرة ومستقلة عن بعضها البعض ولا تؤثر الواحدة في الاخرى
ولكن قد يتبادر الى ذهنك سؤال : أذا كان الكون عبارة عن عوالم (المونادات-الذرات الروحية) مستقل عن بعضها البعض, بما نعلل التناسق والنظام الدقيق الموجود في الكون أن لم يكن بين أجزاءه تآلف وانسجام ؟
يجيب ليبنتز على هذا السؤال إنه قانون التناسق الازلي, ولكن ما هو هذا القانون وكيف يتم من خلاله أدارة الكون بانتظام ؟
قانون التناسق الازلي
أن هذه الذرات-المونادات ركبت بطريقة, تسير كل واحدة منها بشكل موازي للأخرى . تعمل هذه الذرات في توافق دقيق, على الرغم من انفصالها وتفرقها, إلا إنها تعمل في توافق تام ودقيق, وكأنها تبدوا إنها تعمل بشكل يعتمد كل واحدة منها على الاخرى .
تسير هذه الذرات وفق أرادة عليا هي أرادة ألهيه, لذلك هي تسير في أنتظام وتوافق تام, ولا يوجد تناقض وعشوائية فيما بينها .
يضرب لنا ليبنتز في هذا التوفق مثلًا, حيث يُشَبه هذا النظام المنضبط الذي تكون فيه الذرات مستقلة منفصلة من جانب, ومتسقة منتظمة من جانب أخر, يشبه ذلك بالفرقة الموسيقية التي تتكون من مجموعة رجال منعزلين عن بعضهم .
حيث يكون لكل موسيقي منهم دور مستقل عن الاخر, دون أن يرى الاخر, ولكنهم يعملون بشكل متناسق متناغم لإنتاج مقطوعة موسيقية, تبدوا للسامع كأنها من الة واحدة, بسبب التآلف الموجود فيها .
هكذا هي الذرات الروحية التي تشكل عوالم, تكون في نفس الوقت مستقلة منفصلة عن بعضها البعض, ولكن في مجموعها تمثل نظام متناسق .
الخاتمة : وهكذا هي فلسفة ليبنتز, صحيح أنها متشعبة من الجوهر الديكارتي, ولكن ليبنتز ألبسها لباس أخر, فالحقيقة عند ليبنتز ليس كما هي عند ديكارت جوهرين لهما مظاهر متعددة, وليست هي كما عند سبينوزا واحدة بمظهرين جوهر وعرض-حادث وقديم-, هي حقائق متعددة كل حقيقة منها أطلق عليها أسم المونادة