العقل عند سبينوزا
العقل عند سبينوزا, يختلف فهم سبينوزا لمفهوم العقل عن ما كان شائعًا في زمانه, ومقالنا هذا لتوضيح معنى العقل في فلسفة سبينوزا, بعد أن تكلمنا في المقالتين السابقتين عن حياة سبينوزا أولا, ثم عن الله في فلسفة سبينوزا, سنتكلم في هذه المقالة عن العقل في فلسفة سبينوزا .
سبينوزا |
يقول سبينوزا أن هناك حقيقة شاملة واحدة في الكون وأطلق عليها أسم جوهرًا, وهو
يقصد بهذا الجوهر حقيقة تكمن وراء الاشياء, ولا يقصد بها المادة التي يتكون
منها الشي .
يرى سبينوزا أن للطبيعة أو الكون مظهرين, مظهر فعال منشى وخالق من ناحية, ومظهر منفعل مخلوق من ناحية أخرى يتمثل في الدنيا وما فيها من صور حسية .
ففي الكون إذن حسب سبينوزا قوة خالقة يسميها جوهرًا, وبعبارة أخرى هي الله, وأشياء مخلوقة هي ألاعراض أو العالم .
وبخلاف عالم الاشياء, يرى سبينوزا أن الكون يقسم الى جوهر وعرض, الى ماهو قديم
وحادث, أو ممكن أن نسميهما الله والعالم المحسوس, من صفات الجوهر أو الله هو
حقيقة ولا مادة لها, أما العرض فهو عالم الاشياء المادية .
إنما يريد سبينوزا أن قوانين الطبيعة وأوامر الله الخالدة شيء واحد بعينه، وأن كل الأشياء تنشأ من طبيعة الله اللانهائية، كما ينشأ من طبيعة المثلث أن زواياه الثلاثة تساوي قائمتين .
أي أن الله بالنسبة إلى العالم كقوانين الدائرة بالنسبة إلى الدوائر كلها. الله هو القانون الذي تسير وفقه ظواهر الوجود جميعاً بغير استثناء أو شذوذ، فهذا الكون المجسد من الله بمنزلة الجسر (الكوبري) من قوانينه الرياضية والميكانيكية التي بني على أساسها .
إذ القوانين هي جوهر الجسر وقوامه إن زالت اندك الجسر على الأثر. كثيراً ما يخطئ الناس فهم فلسفة سبينوزا التي توحد بين الله والطبيعة؛ فيذهب بهم الظن أن «سبينوزا» يريد بذلك أن يصغر من شأن الله فينزله إلى مرتبة الطبيعة .
والواقع كما يقول هو: " إنني في حقيقة الأمر لم أهبط بمنزلة الإله إلى مستوى
الطبيعة، بل رفعت الطبيعة إلى مستوى الله " .
إن إرادة الله وقوانين الطبيعة أسمان يطلقان على مسمى واحد، وإذن فكل ما يقع للعالم من أحداث إن هو إلا نتيجة آلية لقوانين الطبيعة الثابتة، أي أنها نتيجة لإرادة الله التي لا يطرأ عليها تغير ولا تبدل .
وليست هذه الآلية تقتصر على المادة والجسم فقط كما ذهب ديكارت، إنما هي في زعم سبينوزا تمتد فتشمل الله والعقل على السواء .
إن العالم مجبر مسير في طريق معلومة مرسومة ليس عن السير فيها من محيص، ذلك لأن قوانين الطبيعة - أي إرادة الله - لا تتبدل ولا تتغير، وهي لا بد أن تنتج نتائجها من غير نظر إلى الإنسان ورغبته .
فمن أفدح الخطأ أن نظن أن حوادث العالم تدور حول محور الإنسان، وأنها دبرت
تدبيراً لكي تنتهي إلى غاية يريدها، إذ من الوهم أن نضع البشر محور العالم .
ولعل أساس الأخطاء التي زل فيها كثير من الفلاسفة هو أدخال المقاييس البشرية في سير العالم، ومن هنا نشأت مسألة الشر، ناسين أن الله فوق خيرنا وشرنا، وأن الخير والشر نسبيان يتبعان أذواق البشر وأغراضهم .
يقول سبينوزا إن الإنسان يحكم أحياناً على حوادث العالم بأنها عبث أو شر، لأنه لا يرى الكون إلا من جانب واحد، فهو جاهل بنظام الطبيعة وقانونها الشامل وتماسكها وتكوينها كلاً واحداً، وهو يريد أن تجيء الأشياء وفق ما يبغي .
مع أن ما يحكم عليه الإنسان بالشر ليس شراً بالنسبة إلى قانون الطبيعة ونظامها، فالخير والشر كلمتان لا تدلان على شيء إيجابي، بل هما آراء شخصية تتغير بتغير ظروف الإنسان، ولا تعترف بهما الحقيقة الخالدة .
وقل هذا في القبيح والجميل، إذ هما كذلك أمران اعتباريان لا يدلان على حقيقة واقعة ( إنني لا أعزو للطبيعة جمالاً ولا قبحاً، ولا أنسب إليها نظاماً أو تهويشاً، فإن الأشياء لا يمكن أن تسمى جميلة أو قبيحة، أو أنها حسنة الترتيب أو سيئه إلا بالنسبة إلى مداركنا نحن ) .
فإن كانت الحركة التي تستقبلها الأعصاب من الأشياء التي أمامنا بوساطة الأعين تؤدي إلى الأريحية فإنها عندئذ تسمى جميلة، وإن لم تكن كذلك سميت قبيحة !
وكما أدخل الإنسان شخصيته في النظر إلى الحقيقة الخالدة من حيث الخير والشر والجمال والقبح، فقد نظر إلى الله أيضاً من وجهة نظر بشرية محضة، أما سبينوزاء فيرفض هذه النظرة رفضاً قاطعاً وينكر أن يكون الله مشخصاً بأي معنى من معاني هذه الكلمة .
ويلاحظ أن قد تواضع الناس على تصوير الله في صورة الذكر لا المؤنث، فمثلا يقال
عنه هو ولا يقال هي ويعلل سبينوزا، هذا التذكير الله بخضوع المرأة للرجل. فمن
هذه السيطرة التي يتمتع بها الرجل توهم الإنسان أن الله لابد أن يكون مذكراً في
نوعه، وبديهي أنه لا يتصف بصفة بشرية .
وقد كتب سبينوزا إلى رجل أعترض عليه في تصويره الله بصورة غير مشخصة قال: إنك حين تنقدني لأني أنكر أن يكون الله بصر وسمع وعلم وإرادة وما إليها ... إني أعتقد أن المثلث إذا استطاع أن يتكلم لزعم على هذا النحو بأن الله مثلثي في صفاته .
كذلك تقول الدائرة إن طبيعة الله دائرية في أساسها، وهكذا يخلع كل شيء صفاته
الخاصة على الله .
وإذن لا العقل ولا الإرادة جزء من طبيعة الله
بمعناهما المعروف، ولكن إرادة الله هي مجموع الأسباب كلها والقوانين كلها التي
تسير الطبيعة على أساسها .
وعقل الله . هو مجموع العقول كلها المنبئة في الكون يقول سبينوزا : إن عقل الله هو كل القوة العقلية المنبثة في أرجاء المكان والزمان .
هو الإدراك المنتشر في العالم وهو الذي ينفخ فيه الحياة. فكل الأشياء حية بدرجات والحياة أو العقل جانب واحد لكل ما نعهد من أشياء .
كما أن الامتداد المادي - أي الجسم - جانب آخر، وهذان - العقل والجسم - هما الوجهان أو الصفتان اللتان بهما ندرك عمل الله، وبهذا المعنى يمكن أن يقال عن الله إن له عقلاً وجسماً .
المادة والعقل
بما أننا وصلنا لموضوع العقل، في هذا الموضع نتسائل ؟ هل العقل مادي كما يفهمه
ويتصوره البعض، أما أن المادة أصلا هي مجرد فكرة عقلية ؟
وما هي العلاقة بين الجسم العقل ؟ وهل يؤثر أحداهما في الاخر ؟ وهل هما متصلين
أم منفصلين عن بعضهما ؟
لبيان مفهوم الله عند سبينوزا, يجيب سبينوزا عن كل تلك التساؤلات ويقول, ليس
هناك شي أسمه العقل وحده والمادة وحدها ويسيران بخطين منفصلين ويوجد بينهما
علاقة وتأثير متبادل, فليس العقل هو مادة ولا المادة هي عقل, ليس هناك وجودان
أو عمليتان بحسب سبينوزا .
كل ما في الكون عملية واحدة وشي واحد, ولكن لها مظهران من الداخل فكرًا ومن
الخارج حركة, في هذا الوجود شيئًا واحدًا وليس شيئان, ولكن له مظهران مرة يبدو
عقلًا وتارة يبدو مادة .
ولا توجد علاقة تأثير متبادل بينهما, لأنهما في الاصل ليس شيئان منفصلان عن بعضهما البعض, ويؤثر أحداهما في الاخر, بل هما شيً واحد بمظهرين .
ليس هناك شي من قبيل أن العقل يوجه الجسد, أو الجسد يدفع العقل للتفكير, بل أن الحكم العقلي والرغبة الجسدية هي شي واحد وليس شيئين منفصلين .
كما أنه لا يوجد فرق بين العقل الذي هو الله وبين المادة التي هي الطبيعة, بل أنهما شيئًا واحدًا, نسميه مرة الله ومرة أخرى الطبيعة .
والعالم الحسي والمرئي هو مظهر الله, والله هو مصدر الحياة وهو جوهر كل الاشياء, وهو الواحد الذي تصدر منه الكثرة .
الخاتمة : وبهذا يكون
سبينوزا قد أزال كل فاصل بين الجسد والعقل, وبين أنهما حقيقة واحدة ولها مظهران
تارة هي العقل وتارة أخرى هي المادة, وهما شيئًا واحدًا هما رغبة الجسد ونفس
الوقت حكم العقل .