هل الفلسفة يونانية الأصل؟
الزمان في حدود القرن السابع قبل الميلاد والمكان ملطية، حيث وُلد إنسان سيكتب القدر مع ولادته ولادة الفلسفة. سمي طاليس، وكان أول فيلسوف، ومعه يؤرخ المؤرخون بداية الفلسفة.
هل الفلسفة إغريقية الاصل |
سيتبادر إلى ذهنك سؤال: لماذا بدأت الفلسفة في هذا الزمان وفي هذا المكان ومع طاليس، وليس في مكان وزمان آخر ومع شخص آخر؟
هل يعقل أن الحضارات السابقة للأغريق بآلاف السنين لم تكن تمتلك فلسفة، مثل الحضارة السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والحضارة المصرية الفرعونية القديمة؟ هل يعقل أن هذه الحضارات كانت خالية من الفلسفة أو لم تصل على الأقل إلى التفكير الفلسفي ولو بشكل بدائي؟
قبل الخوض في هذه التفاصيل، يجب أن نعرف معنى الحضارة، ثم معنى الفلسفة، حتى نعرف متى بدأ كل منهما، وما هي العلاقة بينهما، وبعدها سنفهم لماذا بدأت الفلسفة في هذا الوقت من تاريخ الحضارات، وهذا المكان ومع طاليس، وليس مع غيره أو مع سابقيه أو من لحقه.
معنى الحضارة وتاريخ بدايتها الإنسان كائن ذو نشاطين بدني وذهني، لكن النشاط البدني عند الإنسان قد سبق نشاطه الذهني بفترات طويلة جداً، أو قل أنه كان يتطور بسرعة أكبر من تطور نشاطه الذهني.
وهذه حالة طبيعية جداً وفق الظروف الطبيعية الصعبة التي رافقت الإنسان في حياته، والتي كان لها الدور الأهم والرئيسي في تشكيل طبيعة حياة الإنسان.
فالإنسان في أول وجوده، كان كل همه منصباً نحو أمرين: الأول هو توفير حاجته من الغذاء، والثانية هي صد المخاطر التي تعترض حياته، سواء المخاطر الطبيعية أو مخاطر الحيوانات المفترسة، أو المخاطر التي تواجهه من أبناء جنسه.
لذلك لم يتوفر له جو التأمل والتفكير إلا بعد فترات طويلة جداً. والمهم في هذه المرحلة، أن نشاطه البدني كان محكوماً بالظروف الطبيعية، لذلك كانت حياة الإنسان أقرب إلى حياة الحيوان في تحكم الظروف الطبيعية فيها بالكامل.
فالحيوانات تستند سلوكها على ما تمليه عليها ظروف المحيط (الطبيعة) لا على فكرها، لأن القدرات الفكرية الإدراكية للحيوان منخفضة جداً، وهذا ما يجعل سلوك الحيوان خاضعاً للطبيعة وظروفها الخارجية.
لذلك يقتصر سلوك الحيوانات البدني على ما تمليه عليها الطبيعة، فعندما تكون هناك تغيرات شديدة وعالية التباين في الظروف الطبيعية، تليها تغيرات واضحة في حياة الحيوانات وسلوكها. بعض الحيوانات التي لم تستطع التكيف مع الطبيعة انقرضت، وبعضها الآخر تغير وتكيف وفق ما تفرضه الطبيعة.
وعندما أصبحت التغيرات الطبيعية طفيفة وقليلة عبر فترات زمنية طويلة، أصبح سلوك الحيوان مكرراً في محيطه. لذلك، عندما نبحث عن تاريخ الفيل في آخر (x) سنة سابقة، سنجده هو نفسه مكرراً، وعدم وجود تغيرات كبيرة بين الأجيال.
فيكون تاريخ الحيوان أشبه بدائرة مغلقة مكررة، أما بالنسبة للإنسان، فالوضع يختلف تماماً. وهذا ليس معناه أن الظروف الطبيعية لا تؤثر في الإنسان، بل على العكس تماماً، الظروف تبقى وستبقى هي المؤثر الأول في حياة الإنسان. لكن ما يفرق في الإنسان عن الحيوان، هو أن الإنسان انتقل من حالة تأثير الطبيعة بشكل مباشر عليه إلى حالة وجود وسيط بين تأثير الطبيعة والإنسان.
وهذا الوسيط هو العقل، وهو الذي سيكون المؤثر الأول والخالق لتاريخ الإنسان، لكن وجود العقل كوسيط بين الظروف الطبيعية وسلوك الإنسان لم يكن مباشرة على دفعة واحدة، بل احتاج إلى مراحل زمنية طويلة حتى يحل في هذا المحل. وهذه المراحل مختلفة عن بعضها البعض، لأنها في اتجاه التطور، وهذا ما يجعل تاريخ الإنسان عبارة عن مراحل مختلفة عن بعضها البعض أشبه بخط مستقيم، وليس دورات مكررة ومتشابهة كالحيوان.
لذلك، للإنسان تاريخ بينما الحيوان ليس له تاريخ، لأن التاريخ مرتبط بمراحل العقل. ويقول نيتشه في هذا الصدد: "الحيوانات لا تاريخ لها، لأنها منساقَة إلى الدوافع التي تؤثر فيها آنياً، أما الإنسان فإنه يتجدد من خلال التاريخ".
أي، الإنسان في كل مرحلة من مراحل العقل، يعبر فيها عن نفسه بشكل يختلف عن السابق، بما يمثل درجة وعيه الحالي، الذي يختلف عن درجة الوعي السابقة، وهذا ما يجعل من دوام بريقه بصور مختلفة، لا صورة واحدة كالحيوان.
ويكمل نيتشه قائلاً: "وعندما يريد (أي الإنسان) أن يقوم بعمل ما، فإنه يتساءل أولاً: ما الخبرات التي جمعتها أنا في مثل هذا العمل، أو التي جمعها غيري في أعمال مشابهة؟ ومن هنا فإن الدافع إلى سلوك ما قد يقضى عليه بشكل كامل من خلال تذكر تجربة ما."
وهذا السبب في امتلاك الإنسان للخبرة دون الحيوان، لأن تجارب الإنسان مختلفة وليست مكررة.يرجع وجود البشر على الأرض إلى حوالي 2.5 مليون سنة مضت، ولكن تأخر ظهور الإنسان العاقل حتى 300,000 سنة مضت. البشر في الحالة الأولى قبل تحوله إلى الإنسان العاقل، كان خاضعاً بالكامل للظروف الطبيعية، لذلك لا تاريخ له ولا حضارة له، لأن حياته أشبه بحياة الحيوان، وتاريخه عبارة عن دائرة مغلقة مكررة.
لكن مع ظهور جنس الإنسان العاقل قبل حوالي 300,000 سنة مضت، بدأت أولى ملامح الحضارة، إذ بدأ الإنسان يستجيب في سلوكه إلى نشاطه الذهني أكثر مما تمليه عليه الطبيعة، إذ أصبح هذا السلوك الذهني في الإنسان هو مفتاح للتحكم ولو بنسبة قليلة في بدايته في سلوك الإنسان.
وبما أن الطبيعة ذات ظروف متغيرة، اطلع الإنسان وعبر مراحل حياته على احتمالات عيش وأنماط مختلفة، أجبرته الظروف على تجربة أغلبها.
وبالتالي، بعد وصول الإنسان إلى مرحلة معينة، يكون قد تعرض وتعرف على عدد لا بأس به من الاحتمالات، فأصبح يملك الخبرة والمعرفة، الخبرة بمجموع الاحتمالات، والمعرفة بظروف كل منها على حدة.
وهنا أصبح الإنسان لديه صورة أو نمط حياة مثالي - ولو وفق تلك الظروف - في ذهنه، وفي نفس الوقت لديه المعرفة نتيجة الخبرة التجريبية المتراكمة عن الطبيعة، وأي من ظروفها وبيئتها تتقارب مع ما ينسجم مع هذه الصورة الموجودة في ذهنه.
أصبح هذا الوسيط (التفكير) ينظر إلى الظروف الطبيعية على أنها عبارة عن احتمالات، والتفكير يسمح للإنسان باختيار أفضل احتمال ممكن ومتاح وينسجم مع الصورة المخزنة في ذهنه.
وهذه خطوة مهمة في تاريخ الفكر، إلا أن الخطوة الأهم، والتي لها الفضل في بلوغ الإنسان الحضارة، هي الخطوة التي تلت ذلك.
فالطبيعة ليست دائماً تتشكل وفق مزاج الإنسان ولا تأخذ بعين الاعتبار الوضع المثالي لحياته، لذلك انتقل الإنسان إلى خطوة مهمة أخرى، هي التدخل في تشكيل الطبيعة وفق الصورة التي يعتبرها مناسبة لطبيعة حياته، وهنا وضع الإنسان يده في الطبيعة وبدأ بتغييرها وفق ما يلائم احتياجاته، وكانت هذه الخطوة هي الإعلان عن ولادة الحضارة.
لذلك، بدأت الحضارة عندما وضع الإنسان يده لأول مرة لتغيير ملامح الطبيعة بما ينسجم مع حياته، وهذا هو معنى الحضارة.
إذ كان البشر سابقاً يختلفون عن ذلك تماماً، كان سلوكهم البدني خاضعاً للظروف الطبيعية التي تمليها الطبيعة، ثم بعد ذلك تقدموا خطوة أخرى بالأختيار من الاحتمالات المتوفرة، ومن بعد ذلك أصبح الإنسان يتدخل بيده لتشكيل الطبيعة.
إذاً، الحضارة هي النشاط البدني للإنسان تجاه الطبيعة، بتوجيه من العقل وأداته في تنفيذ ذلك هو اليد.والآن فهمنا معنى الحضارة ومتى بدأت، لكن ما علاقة هذا بالفلسفة؟
هناك نشاط ذهني (تفكير نظري) آخر يمارسه الإنسان، هو محاولة فهم العالم وإدراكه، محاولاً تكوين معنى له، أو ما يسمى فيما بعد بالرؤية الكونية. حاول الإنسان فهم هذا العالم، من خلال محاولة تقديم أجوبة للأسئلة الوجودية التي تعترض خاطره.
قلنا أن الإنسان العاقل ظهر قبل حوالي 300,000 سنة مضت، أي أن تاريخ العقل الإنساني يقدر بحوالي 300,000 سنة. هناك مراحل عديدة مر بها العقل محاولاً تفسير الظواهر المحيطة به، ما هي هذه المراحل؟ ولكن قبل الدخول فيها، دعني أقرب لك الصورة. منذ يوم ولادتك وحتى اليوم، تتطور طريقة تفكيرك بتراكم الخبرة والوعي باتجاه التفكير العقلاني لتفسير الظواهر.
فعندما كنت صغيراً، مثلاً، تفسر الظلام بأنه حالة شر وتخاف منه، أما الآن فتفسيرك للظلام هو تفسير مبني على شيء أكثر عقلانية ومنطقية، أو ربما لم يعد الأمر يخيفك كما في السابق، فأصبح الظلام عندك يعني غياب الضوء.
كذلك بالنسبة لتطور العقل البشري الجمعي عبر التاريخ، هو حالة شبيهة بتطور عقلك منذ ولادتك حتى الآن، لأن العقل الجمعي هو مجموع عقول الأفراد، وبالتالي عملية تطور العقل الجمعي شبيهة بتطور عقل الفرد، أي يمر بنفس المراحل.
إذاً، مراحل العقل الجمعي:- في البداية، كان العقل خاضعاً لسيطرة النفس والمشاعر، وأنتج في هذه المرحلة الخرافات.
- ثم بعد ذلك تحرر العقل من سيطرة النفس لكن سيطر عليه الخيال وأنتج في هذه المرحلة الأساطير.
- أما في المرحلة الثالثة، فقد تحرر العقل تقريباً من قيود النفس والخيال ووصل العقل إلى مرتبة الوجود في حريته كما أطلق هيغل على هذه المرحلة.
في البداية، كان الإنسان يتأمل الظواهر المحيطة به، وتصيبها الدهشة والذهول منها، وكانت مرعبة له، لذلك مال الإنسان في أول الأمر إلى تفسير الظواهر المحيطة به تفسيراً نفسياً بما تسبب له هذه الظواهر من مشاعر، لذلك أنتج لنا الإنسان في هذه المرحلة الخرافات.
وبعد تعود الإنسان على هذه المظاهر، تحرر الإنسان من مشاعره السلبية تجاهها، فحاول تفسيرها، لكن فسرها في هذه المرحلة بطابع خيالي، لذلك أنتج لنا الأساطير في هذه المرحلة.
في المرحلة الأولى والثانية، فسر الإنسان الظواهر بردها إلى كائنات ماورائية، لكن سيطرة المشاعر على الفكر في المرحلة الأولى، والخيال في المرحلة الثانية.
في المرحلة الثالثة، أصبح العقل يفكر بشكل عقلاني ومنطقي، فأنتج لنا في هذه المرحلة الفلسفة، فسر الإنسان الظواهر في هذه المرحلة تفسيراً عقلانياً، أي انتقل من التفسير الأسطوري الماورائي إلى التفسير الواقعي (تفسير الطبيعة من خلال الواقع وما هو موجود، وليس بكائنات ماورائية).
الآن بدأنا نفهم معنى الفلسفة ولو بشكل أولي، فهي وفق الكلام أعلاه، أحد مراحل الفكر التي يكون العقل فيها منصاعاً للمنطق والتفكير العقلاني بدلاً من خضوعه للخيال أو للنفس.
أي أن الفلسفة هي أحد أنماط التفكير، أو هي أحد مراحل الفكر، ولكنها مرحلة متقدمة منه، إذ تمثل مرحلة العقل في مرتبة وجوده بشكل حر.
لماذا الفلسفة يونانية الولادة ؟
بالتالي، فهمنا معنى الفلسفة (أحد مراحل الفكر - نمط من أنماط الفكر)، بالإضافة إلى فهمنا معنى الحضارة، الآن أصبح واضحاً ومفهومًا لماذا اختار المؤرخون أن الفلسفة بدأت في هذا الزمان وهذا المكان ومع هذا الشخص وليس في مراحل سابقة.
فلم يكن اختيار هذا الأمر وفق مزاج المؤرخين، بل كما فصلنا في هذا الأمر، فحتى تظهر الفلسفة كان يجب أن يصل العقل إلى مرتبة الوجود في حريته، ولم يصل العقل إلى هذه المرحلة إلا حوالي القرن السادس أو السابع قبل الميلاد في المستعمرات اليونانية في آسيا الصغرى.
وهذا هو الشرط الأول للفلسفة، وهو التفكير في القضايا والمشاكل التي تواجه الإنسان بطريقة عقلانية. لذلك، يعترض البعض على أن المسائل التي عالجتها الفلسفة كانت موجودة عند الحضارات السابقة أصلاً، وكانت هناك أجوبة لها، وهذا مما لا شك فيه.
ولكن أصبح الجواب على مثل هذا السؤال الآن واضحاً لك، إن المسائل هي نفسها نعم، فالأسئلة الوجودية التي تعترض خاطر الإنسان كسؤال "من أنا؟" و"من أين جئت؟" و"ما هو أصل الوجود؟" وغيرها من الأسئلة الوجودية الأخرى هي موجودة منذ بدء الإنسان بعملية التفكير، لكن أسلوب الإجابة عليها يختلف.
واختلاف أسلوب الإجابة على هذه الأسئلة الوجودية هو ما حدد أنماط التفكير. والنمط الفلسفي يتميز بأن الإجابة على هذه الأسئلة تكون بتفكير عقلاني منطقي، وليس خيالياً أسطوريًا أو خرافيًا نفسيًا، إذاً الفلسفة هي تفكير منطقي عقلاني، وهذا هو الشرط الأول في الفلسفة.
وأن الشرط الأول والمهم للفلسفة لم يوجد أو يبدأ وفق ما وصل إلينا من تراث فلسفي إلا مع طاليس في ملطية، وهنا كانت ولادة وبداية الفلسفة على يد الإغريقيين، ولهذا السبب كان اختيار المؤرخين لزمان ومكان وأول شخص في الفلسفة.