مقدمة عن وظيفة الفلسفة
هل شاهدت من قبل شاشة بلازما كبيرة الحجم, مثل تلك الشاشات التي تستخدم في الملاعب, وساحات الاحتفال والاعلانات ؟ مثل ماتعرف هي ليست عبارة عن قطعة واحدة, بل هي عبارة عن قطع أصغر تركب جنبًا الى جنب, لتشكل في الاخير شاشة واحدة, تعرض لنا صورة متناسقة ومتناغمة بشكل يعطي معنى .
وظيفة الفلسفة |
أن هذه الشاشة لم تكن من نتاج شخص واحد, فقد أشترك فيها مجموعة من الاشخاص,
الذين ينتمون الى حقول معرفية مختلفة, مثل الكهرباء والميكانيك وغيرها من
الاختصاصات الاخرى, مؤديًا كل منهم وظيفته .
بمجموعهم ينتجون لنا هذه الشاشة الكبيرة, بعد أن يقوم من هو مسؤول عن
تركيبها بالخطوات الاخيرة, حيث يقوم بتجميع القطع الاصغر لتكوين كامل الشاشة,
أذ إن هذا الشخص هو من يخرج لنا بالصورة النهائية .
ما علاقة هذا بعنوان المقال "وظيفة الفلسفة", بأختصار وقبل الدخول بالتفاصيل, أن للفلسفة وظيفتان, هما التحليل(النقد) والتركيب , لنترك التحليل جانبًا لنعود إليه فيما بعد, ونتكلم عن التركيب .
التركيب الوظيفة الاولى للفلسفة
ماذا يعني أن وظيفة الفلسفة التركيب ؟, التركيب في اللغة يعني "ضم أجزاء
متفرقة وربط بعضها ببعض للحصول على وحدة متكاملة ", ربما بدأت تتخيل العلاقة
بين مثال شاشة البلازما وكلامنا هذا, عمومًا ستوضخ الصورة أكثر أثناء القراءة
.
السؤال الان ماهي هذه الاجزاء المتفرقة التي تحاول الفلسفة تركيبها لتصل من
خلالها الى وحدة متكاملة ؟ وماهي الوحدة المتكاملة التي نحصل عليها من
الفلسفة بعد أن تقوم بهذا التركيب .
لنبين معنى الاجزاء المتفرقة والوحدة المتكاملة, ثم نشرح وظيفة الفلسفة,هناك
أسئلة دائما ماتعترض كل منا وتشغل مساحة كبيرة من تفكيرنا طوال مراحل حياتنا,
من قبيل من أنا, كيف جئت الى هذا الكون, ماهي غاية وجودي, وأين أذهب عندما
ينتهي وجودي الخ من الاسئلة المماثله لها, والتي تسمى بالأسئلة الوجودية,
لأنها أسئلة تخص الوجود بالمعنى الاعم والمطلق لا الوجود الجزئي .
مجموع الاجابات على مجموع الاسئلة هذه, يكون معنى شامل وكامل لوجود الانسان,
يمثل هذا المعنى أشبة بلوحة تمثل معنى الوجود الانساني, وهذه اللوحة كونها
الانسان من مجموع المعاني المستبطة من مجموع الاجابات .
جواب الانسان لسؤال من أنا , وجوابه لسؤال الئ أين ذاهب, بألاضافة لأجاباته
الاخرئ على مجموع الاسئلة, بمجموعها وتركيبها معًا يتكون
للأنسان معنى كامل عن وجوده, يمثل وحدة متكاملة, جواب واحد على
أحد الاسئلة فقط لا يعطينا معنى كامل, بالتالي المعنى الكامل يتكون من ترتيب
مجموعة الاجابات المتفرقة هذه لتكوين صورة شاملة تمثل وحدة
متكاملة .
هذه الوحدة المتكاملة تمثل المعنى الكلي للتجربة الانسانية, وهي تمثل الرؤيا
الكونية للعصر "النظرة الى العالم", والسؤال الان كيف تتكون هذه الرؤيا
الكونية أو النظرة الى العالم "الوحدة المتكاملة", تكونت من تركيب الاجابات
التي تستند على معارفنا السابقة الى جنب بعضها البعض, كما تكونت الشاشة
الكبيرة من مجموع أجزاءها .
الجدير بالملاحظة أن الاجابات على هذه الاسئلة تتجدد وتتغير بتغير وعينا حسب
مراحل عمرنا المختلفة, وبحسب التجارب التي تكسبنا معرفة أضافية, بالتالي
يتغير تبعًا لذلك تركيب الصورة الكونية ويعاد ترتيبها لتكون معنى أخر يختلف
بتفاوت نسبي عن المعنى السابق, وهكذا بتقدم الوعي في كل مرة يعاد تركيب
الصورة .
فيما يخص الفلسفة نفس الامر, ولكن الفيلسوف يهتم بتكوين رؤيا كونية بصورة
أكثر جدية من الانسان العادي, تستند فيها الاجابات التي يقدمها على الاسئلة
الى المعرفة التي تقدمها حقول المعرفة والعلم, وليس فقط على تجارب الفيلسوف
الشخصية .
وبألتالي أن الفلسفة تعطينا رؤيا كونية أوسع وأعم وأشمل من خلال تركيب
المعارف التي تقدمها حقول المعرفة المختلفة, أكثر مما هي تركيب للمعرفة
الشخصية, نفس الالية ولكن الفلسفة تبحث مثلًا عن معنى الانسان بشكل عام, لا
معنى سين من الناس أو صاد .
هناك معارف ناتجة من الحقول المختلفة للمعرفة في تجارب الانسان, لكنها
منفصلة عن بعضها البعض وتعطي كل منها على حده صورة ناقصة ومشوهه للمعنى الكلي
للتجربة الانسانية, فيصعب على أحد حقول المعرفة لوحده أن يعطي معنى كامل
للتجربة الانسانية .
وهنا يأتي الدور الاعظم للفلسفة, والذي يعجز عنه أي حقل أخر من المعارف أن
يؤدي نفس الوظيفة, وهو تجميع كل المعارف من حقولها وينابيعها المتشعبة
والمختلفة الاختصاص, لتكوين صورة واحدة تمثل وحدة متكاملة عن طريق ربط
الاجزاء (المعارف) بعضها ببعض .
بألتالي أن عملية التركيب هذه, هي الوظيفة التي تقوم بها الفلسفة, عن طريق
ربط الاجابات على الاسئلة الوجودية, وتركيبها معًا, لأعطاء معنى عام وشامل
للتجربة ألانسانية, وهذا ما لا يتفق مع الوظائف الاخرى لحقول المعرفة
المختلفة, والتي تتميز بالتخصص لا الشمولية .
هذا فيما يخص التركيب وقد صار واضحًا, والان مامعنى الوظيفة الاخرى للفلسفة التي هي التحليل ؟
التحليل الوظيفة الاخرى للفلسفة
نعود لمثال الشاشة, فبعد تركيبها يقام لها فحص دوري للتأكد من سلامتها, ثم
صيانة وأصلاح ما أصبح منها غير ملائم ومناسب, أذن أن الفحص والصيانة لا يمكن
أن تتم إلا بعد البناء والتركيب, لأنه قبل البناء لا يوجد ما يتم صيانته
.
كذلك هي المنظومة المعرفية "الرؤيا الكونية"بعد أن بنى الانسان منظومته
المعرفية, وكون منها وحدة متكاملة, بدأ بتفحص أدواته المعرفية أو الادوات
العقلية, التي كونت له هذه الرؤيا الكونية .
فبدأ يدرس طبيعة فكره الذي توصل من خلاله الى بناء منظومته المعرفية, وأخذ
يتفحص المناهج العلمية التي كون منها معارفه ومدى صلاحياتها, مناهج العلم
والدين والفن والحدس وغيرها من مناهج المعرفة المختلفة .
وهذ هي الوظيفة الثانية للفلسفة"التحليل", التي من خلالها أخذ الانسان يبحث
عن أي وسيلة تمثل الاستخدام الافضل لأكتساب المعرفة وتنظيم التجربة ,
فالفلاسفة أهتموا بالبحث عن أفضل الطرق التي توصلهم الى اليقين, فبعد تفحص
المناهج قاموا بأعادة صيانتها .
وكانت هذه خطوات مهمة لتقدم الفكر البشري, حيث بدأ الانسان يشك في قدرة
أدواته المعرفية, فبدأ بأختبار أدواته المعرفية, ويتناولها بالنقد ثم التقويم
.
حيث هنا تقوم الفلسفة بدور الناقد الاعلى, أي إنها تقوم بأختبار دقيق جدًا
لما تقدمه العلوم الاخرى بحقولها المختلفة من معارف .
على أن هذه المهمة الاخيرة للفلسفة, مهمة النقد التحليلي, هي الاقل
أستخدامًا من الوظيفة الاخرى التركيب, حيث أن معظم الناس لا يفهمها ولا
يقدرها, والاستخدام الاكثر لوظائف الفلسفة يتمثل بالمهمة الاولى التركيب
.
كتقريب للمعنى في مثال الشاشة تخيل أن الشاشة لو أتيح لها عرض صورة تمثل
معنى الوجود للتجربة الانسانية,فأن من يقوم بصناعة القطع الصغيرة كل منها على
حدة هم العلماء بحقولهم المختلفة, وأن هذه القطع الصغيرة عبارة عن صور جزئية
للحقيقة, ثم يأتي الفيلسوف لتركيب هذه القطع, ليعطينا الصورة الكاملة لمعنى
وجودنا .
وليس هذا فقط مايعمله الفلسفة والفيلسوف, فهي تعود مرة أخرى لتفحص الطريقة
التي صنعت بها القطع الصغيرة, وبيان مشاكلها وأخطاءها أي ومن ثم صيانتها, ثم
تقوم بتقديم الطرق الصحيحة للعلماء للسير على خطاها, والذين بدورهم يعيدون
تصميم هذه القطع وفق المناهج الجديدة التي قدمتها لهم الفلسفة .
الخلاصة : وظيفة الفلسفة
يقال سابقًا بأن الفلسفة هي أم العلوم, أذ هي الاناء الذي نضح منه العلم
وفاض, الى الحد الذي أصبحت فيه العلوم مستقلة عن الفلسفة شي فشي وكل بمجاله
وحقله, أذ تحملت الفلسفة سابقًا مسؤولية العلوم بتخصصاتها المختلفة في تقديم
أجابات للمشاكل التي تواجه الانسان .
لذلك سابقًا خاضت الفلسفة في ميادين مختلفة, مثل علم النفس والفيزياء وغيرها
من العلوم الاخرى, والتي أصبحت مستقلة اليوم عن الفلسفة .
ولكن بعد هذا الاستقلال, أخذ كل علم يأخذ مساحة معينة من مجال الفلسفة, وبقى
مجال الفلسفة أخيرًا محصور في مباحث ثلاث هي الوجود والمعرفة والقيم, ولكن هل
أنقطعت الصلة بين العلم والفلسفة بشكل نهائي, أم لازالت هناك علاقة بينهما, و
أذا كانت هناك علاقة بينهما فما هي طبيعتها ومجالها .
كثير من مجال الفلسفة نافسها العلم عليه, حتى ضيق عليها المجال بحدود مباحث
ضيقة, تكاد تحصر في نظرية المعرفة والقيم .
لكل علم من العلوم منهج وموضوع, المنهج هو الطريق أو الالية التي يتخذها
أصحاب هذا العلم في البحث بالموضوع المتخصص به هذا العلم, ومن المنهج
والموضوع يوفر لنا العلم نتائج, وبالتالي يزيد رصيدنا المعرفي, وهكذا بألنسبة
لبقية العلوم, تشترك جميعها في تقديم المعارف .
بدلًا من أن تقوم الفلسفة بتقديم المعرفة, أخذت العلوم على عاتقها هذه
المهمة, ولكن ما يعيب العلوم, أن الحقائق التي تقدمها جزئية تخص زاوية
مجالها, وهنا تأتي وظيفة الفلسفة, و هي تركيب هذه الحقائق الجزئية, التي
تقدمها العلوم بمختلف تخصصاتها, لتكوين منها حقيقة أكبر, تمثل المعنى الكلي
للوجود .