حياة سبينوزا
باروخ سبينوزا ولد في أمستردام من أسرة برتغالية يهودية, ألقت عصاها في هولندة, بعد ما أصابها من نفي وتشريد, بسبب عقيدتها الدينية اليهودية التي شب عليها الفيلسوف في عهد الصبا .
باروخ-سبينوزا |
وكان أبوه تاجراً ناجحاً ود لو انخرط ابنه في سلك التجارة على أن يخلفه، ولكنه
نفر وأبي وآثر أن ينفق وقته في معبد اليهود وما يتصل به، ينكب على ديانة قومه
وتاريخهم لعله يبث فيهما من روحه الشابة قبساً يمحو ما غشاهما من ظلام .
وما زال الفيلسوف الفتى منصرفاً إلى ما أخذ نفسه به لا يفتر ولا يني حتى أكبره رجال اليهودية الذين تقدمت بهم السن، وأملوا أن يكون من هذا الغلام ضوء ونهوض لجماعة اليهود .
ثم لم يكد يفرغ اسبينوزا من دراسة متن الدين حتى أنتقل إلى شروحهِ ثم إلى كتب
ابن ميمون، وابن عزرا، وحداى بن شبروت، ثم تناول بالدراسة فلسفة ابن جبريل
الغموفية وفلسفة موسى القرطبي وغيرهم من فلاسفة اليهود بالأندلس .
قرأ
سبينوزا هذا كله قراءة درس وتمحيص، امتلأت نفسه بما حوت تلك الأسفار، واستوقف
نظره كثير مما جاء بها من آراء, فلقد راعه ما ذهب إليه موسي القرطبي من وحدة
الله والكون واعتبارهما حقيقة واحدة .
وصادفته هذه الفكرة نفسها في حسداي الذي
ارتأى أن الكون المادي هو جسم الله، ثم قرأ في ابن ميمون بحثاً في نظرية ابن
رشد التي تزعم أن الخلود لا يتعلق بالأشخاص والأفراد .
وهكذا أصبحت قراءة الكتب كل شي في حياة سبينوزا, ولكن هذه الكتب التي
قرأها بذرت في نفسه بذور الريبة والشك، وأثارت في ذهنه من المسائل والمشاكل ما
لم يستطع حلها، فأبت نفسه المتطلعة إلا أن يقرأ ما قاله رجال الفكر في الديانة
المسيحية عن الله وعن مصير البشر لعله مصادف عندهم ما يشفي غلته .
فبدأ يدرس اللغة اللاتينية حتى أستوعبها، وعن طريقها استطاع أن يطالع تراث
الفكر الأوربي، سواء منه القديم والأوسط، فدرس سقراط وأفلاطون وأرسطو كما درس
فلسفة الذريين التي صادفت منه إعجاباً عظيماً، وطالع الفلاسفة المدرسيين وأخذ
عنهم كثيراً من مصطلحاتهم الفلسفية .
كما اقتبس منهم طريقتهم الهندسية في استخدام البدائه والتعاريف والقضايا
والبراهين والنتائج وما إلى هذه من طرق البحث في الهندسة .
كذلك درس فلسفة برونو، ذلك التأثر العظيم الذي أنفق حياته في التجوال من بلد
إلى بلد، والانتقال من عقيدة إلى عقيدة، باحثاً دهشاً مرتاباً، والذي حكمت عليه
محكمة التفتيش آخر الأمر أن يقتل من غير أن يراق دمه، أي أن يُحرق حياً .
وأول ما استرعى نظر سبينوزا من آراء «برونو» هي فكرته عن وحدة الوجود فكل الحقيقة واحدة في عنصرها واحدة في علتها، والله وهذه الحقيقة شيء واحد .
كذلك ارتأى برونو أن العقل والمادة شيء واحد، فكل ذرة مما تتألف منه الحقيقة مركبة من عنصر مادي وعنصر روحي قدا امتزجا بحيث لا يقبلان التجزئة والانفصال .
وموضوع الفلسفة هو أن تدرك وحدة الوجود في تعدد مظاهره، وأن ترى العقل في المادة والمادة في العقل .
وقد كان لهذه الفلسفة أثر عظيم في فكر وحياة سبينوزا. نعم أثر كل أولئك
في فيلسوفنا أثراً كبيراً، ولكنه فوق ذلك كله مدين لديكارت بكثير من فلسفته
وتفكيره .
فقد استوقفه ما ذهب إليه ديكارت من أن الوجود ينحل إلى عنصرين، المادة كلها تنطوي تحت عنصر متجانس، والعقل كله يندرج تحت عنصر آخر متجانس ولقد أثار هذا التقسيم من سبينوزا نزعة أصيلة فيه نحو التوحيد، وأبي إلا أن يكون الكون بكل ما فيه عنصراً واحداً .
كذلك استرعى نظره من فلسفة ديكارت تفسيره للعالم كله، ماعدا الله والنفس،
بالقوانين الآلية والرياضية - وهي فكرة بدأت عند برونو وجاليليو، ولعلها كانت
صدى لتقدم الصناعة الآلية في المدن الإيطالية .
قد زعم ديكارت»، كما زعم «أناكساجوراس» قبله بألفي عام، أن الله قد دفع العالم دفعة واحدة منذ البداية، كانت نتيجتها كل هذه الحركات التي تطرأ على الأجسام المادية كائنة ما كانت، فكل حركة من حيوان أو إنسان إن هي إلا نتيجة حتمية آلية لتلك الدفعة الإلهية الأولى .
وإذن فالعالم كله بما فيه من أجسام آلة تسير مجبرة، ولكن خارج هذا العالم الآلي إلها، كما أن داخل جسم الإنسان روحاً، وهنا وقف ديكارت فجاء سبينوزا وتناول الكون كله مادة وروحاً وخالقاً ومخلوقاً، وصب الجميع في وحدة لا تنقسم ولا تتجزأ .
تلك كانت المصادر العقلية التي استقى منها سبينوزا فلسفته، ذلك الفيلسوف الذي
كان يبدو رضياً وادعاً وفي صدره أتون مستمر لا يهدأ ولا يستقر .
بدأت المشاكل تظهر في حياة سبينوزا, حين سيق في سنة ١٦٥٦ إلى محكمة من آباء الكنيسة اليهودية، فسأله هؤلاء أصحيح أنك زعمت لأصدقائك أن الله جسداً - هو العالم؟ ولا ندري بماذا أجاب، ثم أصدروا حكهم عليه بالكفر والحرمان .
أصبحت حياة سبينوزا أكثر صعوبة حينما قضت الكنيسة اليهودية بفصل سبينوزا ومقاطعته, فقابل سبينوزا هذا القضاء بصدر رحب وعزم صليب، وألقى ببصره فإذا هو وحيد طريد لا يخالط أحداً ولا يخالطه أحد، فخرت في نفسه مرارة الموقف، حتى إنك لتراه في كل ما كتب جاداً صارماً لا تعرف الفكاهة سبيلاً إليه .
ولقد ظل يحمل سبينوزا في حياتهِ لرجال الدين المقت والبغض لما رأى فيهم من
جهالة وحمق, ولكن سبينوزا لبث منبوذاً من قومه، حتى إنه ذات ليلة بينما هو يسير
في الطريق إذ انقض عليه مأفون أخذته حمى الورع الأحمق، وطعن الشاب الفيلسوف
بخنجره لعله يتقرب بدمه إلى الله .
فأنطلق سبينوزا يعدو سريعًا وقد أصابه الغر بجرح في عنقه، وانتهى فيلسوفنا بعد
هذه الحادثة إلى رأي حاسم، هو أنه لا يستطيع أن يحيا حياة الفلسفة التي يريد
إلا إذا اعتزل العالم وعاش وحيداً آمناً، فيسبح بفكره في الكون كيف شاء .
لذلك استأجر غرفة هادئة في الطابق العلوي من منزل منعزل عن مدينة أمستردام،
واستبدل بأسمه «باروخ» اسماً آخر يتنكر به هو بندكت Benedict وكان يكسب قوته
بادئ الأمر من تعليم الأطفال في إحدى مدارس المدينة .
ثم اشتغل بعد ذلك بصقل العدسات الزجاجية، وهي مهنة كان قد تعلمها أيام حياته في الجماعة اليهودية، إذ يحتم قانون اليهود أن يحترف كل طالب حرفة يدوية لعقيدة عندهم هي أن الإنسان لا يكون فاضلاً إلا بالعمل .
مضت سنوات خمس انتقل بعدها صاحب الدار التي كان سبينوزا يقيم بها إلى بلد قريب من ليدن Leyden فرافقه الفيلسوف، لما كان قد توشج بينهما من روابط الحب والائتلاف، ولا يزال المنزل الجديد الذي هبطاه قائماً حتى اليوم، ولا يزال الطريق إليه يحمل اسم هذا الفيلسوف العظيم .
في هذه الدار قضى سبينوزا أعواماً يعيش عيشاً غليظاً خشناً، ولكنه في تلك
الفترة من حياته سما بفكره وسمًا حتى بلغ أسمى الذرى، وكثيراً ما كان يقضي في
غرفته أياماً ثلاثة يسبح في تأمله دون أن يرى أحداً، سوى الخادم الذي يقدم إليه
طعامه المتواضع .
واستأنف سبينوزا في بلده الجديد عمل العدس الزجاجي لكسب عيشه، ولكنه لم يستفد
من صناعته هذه إلا أخشن العيش، فقد أسلم نفسه للحكمة التي اختصها بحبه وقلبه
حتى انتهى إلى فشل ذريع في حياته العملية كاد يعجزه عن أن يقيم أوده .
ولكنه كان في بساطة عيشه سعيداً هانئاً لما كان يصادفه من لذة بالغة في التفكير، وقد أجاب رجلاً نصحه أن يدع التفكير وأن يؤمن بالوحي في غير تردد ولا عناء، بقوله :
" إنني أيقنت في بعض الأوقات أن النتائج التي وصلت إليها بعقلي الطبيعي باطلة، ولكن ذلك لن يزيدني إلا اقتناعاً بالعقل، لأنني سعيد في عملية التفكير نفسها " .
قضى سبينوزا في رينسيرج Rhynsburg سنوات خمساً كتب فيها رسالته الصغيرة
في تحسين العقل كما كتب كتاباً اسمه الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي وقد فرغ من
هذا الكتاب في سنة ١٦٦٥ ، ولكنه لبث عشرة أعوام دون أن يذيعه في الناس .
وذلك خشية أن يصيبه من السجن والتعذيب ما أصاب رجلاً نشر سنة ١٦٦٨ كتاباً يحوي
آراء مماثلة لما أثبته اسبينوزا في كتابه، فكان جزاؤه الحكم عليه بالسجن سنوات
عشرا لم يتمها ومات في خلالها، وقد ظن فيلسوفنا أنه مستطيع نشر كتابه في
أمستردام حيث الآراء مكفولة حريتها نوعاً ما .
ولكنه لم يكد يحل بالمدينة حتى ذاع بين الناس أن سبينوزا، سيصدر كتاباً يحاول
فيه أن يقيم الدليل على إنكار الله .
ويقول سبينوزا في خطاب أرسله لأحد أصدقائه: ... يؤلمني أن أقول إن كثيراً من الناس قد تقبل الإشاعة على أنها حقيقة، وأن بعض رجال الدين قد انتهز هذا الموقف فشكوني إلى الأمير وإلى رجال الدولة, فلما جاء في هذا النبأ من بعض المخلصين من أصدقائي الذين أكدوا لي أن رجال الذين يتربصون بي في كل مكان، أزمعت ألا أنشر الكتاب حتى يحين الوقت الملائم .
وشاء الله ألا يصدر كتاب «الأخلاق، وهو خير ما أنتجه الفيلسوف إلا بعد موته، إذ نشر في سنة ١٦٧٧ مضافاً إليه رسالة في السياسة» لم يتمها .
وكانت كل هذه الكتب مسطورة باللاتينية لأنها كانت لغة الفلسفة والعلم في
أوروبا في القرن السابع عشر. وقد وجدت له بعد موته رسالة أخرى غير ما ذكرنا
أسماها رسالة موجزة في الله والإنسان أراد بها فيما يظهر أن تكون مقدمة تمهيدية
اللأخلاق .
وأما الكتب التي نشرها في حياته فهي أصول الفلسفة الديكارتية ورسالة في الدين
والدولة، وهذه الأخيرة صدرت خلوا من اسم المؤلف، فحرمت الحكومة بيعها، وكان ذلك
عاملاً على ذيوعها متسترة وراء عنوانات مختلفة، فسماها بعض الناشرين رسالة طبية
وسماها آخرون قصة تاريخية وهكذا .
وقد تصدى لتفنيد هذا الكتاب عشرات من الكتاب، وأطلق بعضهم على سبينوزا، بعد أن
عرف أنه المؤلف المتنكر، أنه أفجر ملحد شهدته الأرض, كما تبرع فريق كبير من
الكاتبين برسائل بعثوا بها إلى الفيلسوف يقصدون هدايته ورده إلى حظيرة الإيمان
.
نسوق منها مثلاً رسالة جاءته من ألبرت برج Albert Burgh وقد كان تلميذاً سابقاً لسبينوزا: لقد زعمت أنك وجدت الفلسفة الصحيحة آخر الأمر.
فكيف عرفت أن فلسفتك أصدق مما درس في العالم من قبل، ومما يدرس الآن، ومما سيدرس في الأيام المقبلة من فلسفات؟ ولندع ما قد تنتجه الأيام المقبلة، فهل اختبرت الفلسفة كلها، قديمها وحديثها، التي يدرسها الناس في الهند وفي أنحاء الدنيا جميعاً ؟
وإذا سلمنا أنك قد اختبرتها اختباراً صحيحاً، فمن أدراك أنك قد تخيرت منها أصحها ؟... كيف تجرؤ أن تضع نفسك فوق رجال الدين جميعاً والأنبياء والقديسين والشهداء والأطباء ومعلمي الكنيسة؟
ألا إنك الإنسان منكود، ودودة تسعى على الأرض، نعم إنك جثة وطعام للدود، فكيف تعارض الحكمة الخالدة بكفرك اللعين؟ علام بنيت هذا المذهب الأحمق المأفون الأسيف ؟ أي غرور شيطاني دفعك أن تصدر حكماً في المعجزات التي يعترف الكاثوليك أنفسهم بأنها فوق العقول, فأجاب سبينوزا عن ذاك الخطاب بهذا الجواب :
أنت يا من تزعم أنك قد وجدت آخر الأمر أصدق الأدباء وأحسن المعلمين، ثم قصرت إيمانك عليهم، كيف عرفت أنهم أحسن من علموا الأديان من قبل، ومن يعلمونها اليوم، ومن سيعلمونها منذ اليوم ؟
هل اختبرت كل هذه الديانات قديمها وحديثها، التي يتعلمها الناس هنا وفي الهند
وفي أصقاع الأرض جميعاً؟ وحتى لو سلمنا أنك قد اختبرتها اختباراً صحيحاً، فن
أدراك أنك قد تخيرت منها أقومها .
ولكن إلى جانب هؤلاء الساخطين، كان للفيلسوف طائفة كبيرة من المعجبين به المقدرين نبوغه، ومنهم من أوصى له بقدر كبير من ماله لينفق منه عن سعة، ويكفي أن تعلم أن بين هؤلاء المعجبين لويس الرابع عشر الذي أجرى على الفيلسوف راتباً سنوياً، وفي مقابل هذا العطف أهدى سبينوزا إليه أحد كتبه الخالدة .
ولما كان عام ١٦٦٥ انتقال سبينوزاء إلى إحدى ضواحي لاهاي وليث بها خمس سنوات
ثم انتقل إلى لاهاي نفسها، حيث أقام بها، وبعد عامين (سنة (١٦٧٢) هاجم جيش
فرنسي أرض هولندا وحاصر لاهاي .
ولم يكد يستقر الجيش الفرنسي الفاتح حتى دعا قائده سبينوزا أن يزوره في معسكره
لكي يقدم له الراتب الذي أجراه عليه ملك فرنسا، ولكي يقدم إليه فريقا من
المعجبين بفلسفته ممن كانوا برفقة الجيش .
فلم يتردد الفيلسوف في إجابة الدعوة إذ لم يكن له شأن بالخصومة التي تنشب بين
الدول، بل إنه كان يرفض أن ينتسب إلى وطن من الأوطان وبعد نفسه أوروبيا، فلما
عاد إلى المدينة بعد زيارته للقائد الفرنسي، ذاعت في الناس أنباء الزيارة
فأحتشد الناس غاضبين يريدون به سوءاً وشراً .
ولكنهم ما لبثوا أن تفرق شملهم في هدوء وسكينة، إذ علموا أن الرجل فيلسوف لا
يزج بنفسه في معمان الخصومة والعداء .
وقضى سبينوزا، نحبه سنة ١٦٧٧ ولم يتجاوز الرابعة والأربعين، بعد أن أضناه مرض
السل الذي ورثه عن أبويه، ولم يكن فيلسوفنا يخشى الموت الذي كان يحس به يدنو
إليه بخطوات سراع، وإنما كان يخشى أن يضيع كتابه الأخلاق الذي لم يجرؤ على نشره
بنفسه .
وكان هذا الكتاب يقع من نفسه موقعاً حسناً، لأنه بلغ فيه الذروة، فوضعه في
قمطر صغير مقفل، وأعطى مفتاح القمطر إلى صاحب الدار، راجياً له أن يسلمه بعد
موته إلى صديق له كان ناشراً في أمستردام، ليقوم بنشر الكتاب .
يمثل يوم الأحد العشرين من فبراير اليوم الاخير في حياة سبينوزا، حيث
ذهبت الأسرة التي كان يساكنها سبينوزا إلى الكنيسة لأداء صلاتهم، ولم يبق معه
في الدار إلا صديقه الطبيب مير Meyer فلما عاد رب لدار وأسرته من الكنيسة ألفوا
الرجل ملقى بين ذراعي صديقه جثة هامدة .
فوقع نبأ موته من أكثر الناس موقعاً أليماً، فقد أحبته العامة الساذجة لوداعته، وأجله العلماء لحكمته، وسار الناس من كل طبقة وراء نعشه يشيعونه إلى مقره الأخير .
الخاتمة : نعم هكذا كانت حياة سبينوزا, عبارة عن قصة مليئة بألاحداث
والصراعات الفكرية, وبألاخص مع رجال الدين, الذين كانوا نقطة سوداء في حياة
سبينوزا , رحل هذا الفيلسوف, ولازال فكره الى اليوم له صدى واسع وأثرٍ كبير
.