recent
أهم الموضوعات

فرانسيس بيكون مؤسس المنهج الاستقرائي

حياة فرنسس بيكون

فرانسس بيكون ولد في القرن السادس عشر, الذي يُمثل العصر الذهبي ل أنجلترا، حيث تم إكتشاف القارة الأمريكية، فتحول مجرى التجارة من البحر الابيض الى المحيط الاطلسي وبذلك أرتفع شأن الأمم المتآخمة لذلك المحيط، كل من أسبانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا.

 



 
وتبوأت أنجلترا في عالم التجارة والمال تلك المكانة الرفيعة، التي كانت تنعم بها أيطاليا من قبل، حينما كانت القارة الأوروبية تتخذ منها ثغرة لتبادل التجارة بينها وبين الشرق، ثم لم تكد تتحطم القوة البحرية الاسبانية سنه 1588 حتى تخلصت أنجلترا من أقوى منافسها، فأتسع نطاق التجارة الانجليزية إتساعًا كبيرًا.

وقد شاء الله أن لا يكون نهوض الامة الانجليزية في عصرها الذهبي مقصورًا على التجارة والصناعة والملاحة فقط، بل أتسع ليشمل الاداب، حيث بلغت الاداب أقصى أزدهارها، نعم إنه العصر الذي تغنى فيه بالشعر والادب شكسبير ومارلو وبن جونسون وغيرهما عشرات وعشرات من أئمه القلم وأرباب البيان.

في ذلك العصر الزاهر الزاهي ولد الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون في 22 من شهر يناير سنه 1561 في مدينة لندن، كان أبوه السير نيكولوس بيكون يتربع في أسمى مناصب الدولة، وكانت أمهُ سليلة بيت عريق حصلت من العلم وأصول الدين قدرًا محمودًا.

لما بلغ فرانسيس بيكون سنه 12 من عمرهُ أرُسل الى جامعة كامبردج, حيث بقى فيها ثلاثة أعوام، وبعدها ترك الجامعة ساخطًا على مادة التدريس وطريقتهِ، كذلك فقد كَرِه فرانسيس بيكون ذلك الجدل الفارغ العقيم الذي لا ينتهي في أغلب الحالات الى شيء ذو قيمه.

وكان لهذا الحدث الشيء الكبير في توليد العزيمة والإصرار بداخله، في إنقاذ الفلسفة من ركودها الذي كان يدنو بها الى جمود الموت، فصمم فرانسيس بيكون أن ينقل جذور الفلسفة, من أرض المدرسية القاحلة فيغرسها في تربة أغنى وأخصب, الى حيث تكون الفلسفة سبيلًا إلى خير الإنسان وسعادته.

وقد شاء القدر لهذا الرجل الذي وضع أساس المذهب التجريبي, أن تكون التجربة أخر مشهد له في حياتهَ الزاخرة، فقد حدث في شهر مارس من سنه 1626 إنه كان مسافرًا من لندن الى إحدى المدن القريبة, فأخذ يفكر تفكيرًا عميقًا في إمكانية حفظ اللحم من التعفن بتغطيته بالثلج، فأراد رجل التجربة أن يجرب ذلك بنفسه.

فنزل من عربته عند كوخ صادفه في الطريق فأشترى منه دجاجة وذبحها وملاها بقطع الثلج, حتى يرى كم تعيش هذه الدجاجة دون أن يصيبها الفساد، وبينما هو مشتغل بذلك داهمهُ المرض بشكل مفاجئ وأعجزه من العودة إلى لندن, فنقل الى منزل مجاور لأحد الأثرياء.

حيث رقد فرانسيس بيكون الذي يعد بحق مؤسس المنهج الاستقرائي في هذا المنزل رقدة الموت، وقد كتب وهو على سرير الموت هذه العبارة " نعم لقد نجحت التجربة نجاحًا عظيمًا "، وكان ذلك آخر ما خطهُ قلمهُ ثم أسلم الروح في التاسع من أبريل سنة 1626 وهو في الخامسة والستين من عمره.

وقد كتب هذه الجملة قبل موتهِ " أنني أضع روحي بين يدي الله، وليدفن جسدي في طي الخفاء وأما إسمي فإني باعث به الى العصور المقبلة والى سائر الأمم "  وها هي العصور والامم قد تقبلت اسمه التمجيد والتخليد.

الأوهام الأربعة Idols

يريد بيكون بادئًا بد أن يسجل عوامل الخطأ وأسباب الزلل قبل أن يمضي في رسم خطته الجديدة، وهو يحصرها في مجموعات أربع، يطلق عليها هذه الاسماء التالية :

  • أوهام الجنس Idols of the race
  • أوهام الكهف Idols of the cave
  • أوهام السوق Idols of the market-place
  • أوهام المسرح Idols of the theatre

أوهام الجنس

ويريد بيكون بأوهام الجنس، تلك الاخطار التي غرست في طباع البشر بصفه عامه، فقد يزعم الانسان باطلًا إنه مقياس الحقائق، بما يملك من إدراك حسي وإدراك عقلي، والواقع إن ما يدركه الانسان بعقله وحواسه، ليس إلا صورةً لنفسهِ أكثر منها تصويرًا للكون الخارجي.

إذ يقول بيكون فليسَ العقل كالمرآة الصافيه التي تعكس صور الاشياء كما هي تمامًا، ولكنه كالمرآة الملتويه التي تمزج صورة نفسها بصورة الاشياء التي تصدرها فتصيبها بالفساد والتشويه.

ومن أخطاء العقل البشري أيضًا التي جبل عليها، ميلهُ أن يفرض في الاشياء درجة من النظام والاطراد أعظم مما هي في الواقع، مثال على ذلك أن الإنسان لا يكاد يرى الكواكب تعود فتبدأ سيرها من حيث إنتهت، حتى يفرض إن افلاكها دوائر كامله، وإنها تسير فيها سير المنتظم.

كذلك من اخطاء العقل المطبوعه فيه إنه أذا سلم بصحه قضيه ما سواء كان تسليمه تقليدًا لعقيده شائعه أم من أجل فائدته ينالها من صحة هذه القضية المعينة، فإنه يحاول أن يُرغم كل شيء أخر أن ينقض دليلًا على صحة قضيتهِ تلك.

فإن صادفهُ من الأمثله الكثيره ما يدل على خطأها دلالة واضحة قاطعة، فإنه اما يهملها أو يصغر من شأنها او يرفضها في تعصب ذميم، فأهون على نفسهُ رفض الحق من نبذ قضيةٌ ركن إلى صحتها وأعتقد بسلامتها زمنًا.

وهكذا يسارع الناس الى ملاحظة الامثله والحوادث التي تؤيد ارائهم وعقائدهم، ويهملون أو يتجاهلون كل دليل ينهض على بطلان تلك الاراء والمعتقدات، فخليق بالإنسان ان يفكر فيما يؤيد رايهُ وفيما يعارضه على السواء حتى يخلص الى الحق.

أوهام الكهف

واما الطائفة الثانيه من أوهام العقل واخطائه التي يسميها بيكون, فهي تلك التي يختص بها الفرد ان لكل انسان مغارة او كهفًا خاصًا به, يعمل على كسر اضواء الطبيعه والتغيير من لونها , وليس هذا الكهف الا شخصية الفرد التي تكونها الطبيعة والبيئة والتغذية والتربية وسائر العوامل التي تكون الشخصية.

ولما كانت تلك العوامل مختلفة بأختلاف الافراد, كان لكل إنسان نزعته الخاصة وأخطائة الخاصة, وبعض العقول ينزع بطبيعة تكوينه الى التحليل وملاحظة أوجه التباين والخلاف بين الاشياء كالعلماء والمصورين, وطائفة أخرى تميل الى البناء والتركيب كالفلاسفه والشعراء, فتلاحظ أوجه الشبه بين الاشياء.

كذلك نرى فريقًا من الناس يتصفون بالجمود ويعجبون بالقديم اعجابًا شديدًا لا يرضون عنه من الجديد بديلًا, وأخرين يتقبلون كل جديد يتحمسون له تحمسًا قويًا, وقليلًا من الناس هم الذين يستطيعون أن يقفوا موقف التوسط والاعتدال, فيبقوا على القديم الصالح ولا يرفض الجديد النافع, إذ الحقيقة لا تعرف تحزبًا ولا تعصبًا.

ومن أمثلة اوهام الكهف ايضًا, ما تخلقه مهنة الشخص في نفسه من الميول والنزعات التي تحصل تفكيره في حدود مهنته الضيقة.

أوهام السوق

فهي تلك التي تنشأ من التجارة وأجتماع الناس بعضهم مع بعض, وذلك لأن الناس يتبادلون الحديث باللغة التي صيغت كلماتها وفقًا لعقلية السوقة, فنشأ من سوء تكوينها ومن عجزها تعطيل شديد للعقل.

أي إنها ناتجة عن سوء إستخدام اللغة, نتيجة للخلط اللغوي, وحذر بيكون بشدة بالغة بضرورة تجنبها, حيث تسبب للأنسان بحجب إدراكه بشكل واضح لمعاني اللغة, فتسبب له الاوهام .

أوهام المسرح

وفي العقل فوق ذلك كله أوهام قد إنحدرت اليه من مذاهب الاقدمين وعقائدهم, وقد أطلق بيكون على هذا الضرب من الاخطاء أسم اوهام المسرح, مشيرًا بذلك الى إن الانظمة الفلسفية التي يتلقاها كل جيل عن اسلافه, ليست الا روايات مسرحية تمثل أكوانًا خلقها الفلاسفة بفكرهم خلقًا كما يخلق الروائي أشخاص روايته وحوادثها.

فليس العالم الذي يصوره أفلاطون مثلًا الإ عالمًا بناه هو وصوره كما شاء له عقله وخياله, وقد لا يتفق مع الحقيقة الواقعة في شيء.

وبديهي إن هذه الاوهام الاربعة قد تجتمع كلها في شخص واحد, وقد تنفرد فيؤثر في الشخص عامل واحد منها أو اكثر.
ويصوغ لنا فرانسس بيكون مثالًا على هذه الاوهام الاربعة, فأذا قلت مثلًا :

  • إن الشمس تدور حول الارض, وبنيت قولي على ما تدلني عليه عيناي, كان ذلك وهمًا جنسيًا لأني أعتمدت على الحواس الخادعة, وخداع الحواس عام في البشر.

  • فأن عللت دورانها حول الارض بما هو ذائع بين الناس بواسطة اللغة ( كطلعت الشمس وغربت الشمس ), كان ذلك وهمًا سوقيًا لانه نشأ عن إجتماعي بالأشخاص الاخرين.

  • وإن دللت على صحة قولي, بما قاله بطليموس في هذا الموضوع, كان ذلك وهمًا مسرحيًا, لأن الخطأ هنا قد جاءني من أراء السالفين.

  • أما إن كنت أرى هذا الراي, لأنه يتفق مع ما وصلت إليه أنا نفسي, بعد البحث والتأمل, كان ذلك مني وهمًا كهفيًا, لأني أنا مصدره.

تلك هي أوهامنا التي تقيدنا بأغلالها, فتقعد بنا عن أن ننطلق خفاقًا أحرارًا في بحثنا وراء الحقيقة, فلابد إذن من دكها وهدمها, ولابد لنا من تطهير عقولنا وتنقيتنا من هذه الشوائب, ثم لابد لنا من أسلوب جديد للتفكير, وأداة جديدة للفهم والبحث.

خطوات المنهج التجريبي عند فرانسيس بيكون

بعد أن أكمل بيكون شرح هذه الاوهام التي تعرقل العقل وتعطله, أنتهى به هذا الشرح إلى نتيجة أمن بها أشد الايمان, وهي إن الداء كل الداء, إنما في طريقة الاستنتاج التي كان يستخدمها رجال العصور الوسطى في تفكيرهم.

أذ كانوا يسلمون من أول الامر بطائفة من القضايا تسليمًا أعمى, ثم يتخذون من هذه القضايا نقطة إبتداء, ويعمدون إلى أخذ النتائج منها, فكان مستحيلًا أن تنكشف لهم بذلك حقيقًة جديدة, لأنهم محصورون مقيدون بما سلموا به.

إذن فلابد لنا ألا تبدأ بالتسليم، ويجب أن تخضع كل قول مهما كان مبعثه للملاحظة والتجربة، فإنك لو بدأت بالإيمان ببعض الحقائق فسينتهي بك الأمر أخيراً إلى الشك، ولكنك إذا بدأت السير بالشك والارتياب فلابد أن تنتهي إلى الحق واليقين.

هكذا ينقد بيكون طريقة الاستنتاج من مقدمات مفروضة، وهو لا يقف عند الهدم والنقض، ولكنه يقدم لنا طريقة علمية جديدة طريقة الاستقراء Induction) تؤدي إلى الغاية التي يرضاها من كشف واختراع ينتهيان بخير الإنسان وسعادته، وهو يشرحها في المدينة الفاضلة التي صورها كما شاء له خياله، والتي ستأتي على ذكرها بعد حين، وها نحن أولاء نعمد إلى تحليل طريقته وبسطها خطوة خطوة.
  • جمع الحقائق
أول خطوة يخطوها الإنسان في سبيل الاستقراء هي بالطبع ملاحظة الحقائق وجمع الأمثلة، فيستحيل على الإنسان الذي يتصدى لفهم الطبيعة وتفسيرها أن يفهم منها أكثر مما يلاحظ من أحداثها ومشاهدها بحواسه وفكره، وبديهي أن يعجز الإنسان عن معرفة ما لم يلاحظه.

وإذن فالمرحلة الأولى من الطريق هي إعداد «تاريخ» لكل ظاهرة من الظواهر التي نرى الكون غاصاً بها، وبهذا التاريخ وحده نستطيع أن نشرح تلك الظواهر، وينبغي أن تكون المعلومات التي نجمعها عن كل ظاهرة نريد بحثها وافية شاملة لكل ما تأتي به الملاحظة والتجربة مما يتعلق بهذه الظاهرة.

ويطيل بيكون القول والشرح في هذه المرحلة الأولى من طريقته لأنه يثق كل الثقة أنه بغير هذا التسجيل لحقائق الطبيعة يتعذر أن يتم عمل واحد على أساس صحيح ولو اجتمع عليه نوابغ العصور كلها، وهو يهيب بالناس أن يسجلوا تاريخ الطبيعة حتى يصبح فهمها وفهم العلوم كلها عملاً هيئاً تكفيه أعوام قلائل. 
 
  • كشف الصور
تجئ بعد جمع الحقائق والأمثلة مرحلة ثانية، هي المقارنة بين هذه الحقائق التي جمعناها بملاحظتنا لمشاهد الطبيعة، وهذه المقارنة تمكننا من الوصول إلى صورة الظاهرة التي نكون بصدد بحثها، وهنا نرى بيكون غامضاً في تحديد ما يقصده تماماً من كلمة "الصورة" فهو يقال تعريفاً لها: صورة الظاهرة هي التي إذا أضيفت إليها أكسبتها ماهيتها، وإذا ما انتزعت منها تلاشت طبيعتها.

ولكنها لا تزال مع هذا التعريف مبهمة غامضة لا نفهم مدلولها فهماً دقيقاً، فهي بالبداهة لا تعني شكل الشيء الخارجي الذي يدرك بأحدى الحواس، وليست هي المثال الأفلاطوني للشيء، لأن هذا منفصل عن الشيء وخارج عنه.

أما «صورة» الشيء عند بيكون» فهي فيه وتتصل به أوثق اتصال، ونستطيع أن نوضحها للقارئ على وجه التقريب بأنها «القانون الذي تسير على مقتضاه الظاهرة المعينة، فصورة الحرارة مثلاً هي قانونها وهكذا. فهذه المرحلة إذن هي استخراج القانون من الأمثلة بأن نحذف الحقائق التي يتبين لنا أثناء اختبارنا للأمثلة المجموعة أنها عارضة طارئة، إلى أن نستخلص في النهاية الخصائص الجوهرية التي تتميز بها الظاهرة التي تبحثها.
  • جدول الاستنتاج
هذا أنت قد اجتمع لديك ما شئت أن تجمع من أمثلة وحقائق ثم أخذت تقارن بينها لتستخرج ما هو عرضي زائل قد يصحب الظاهرة وقد لا يصحبها، وتستبقى ما هو جوهري دائم لا ينفك ملازماً للظاهرة المبحوثة أينما كانت، ثم صعدت من مرحلة الأمثلة الجزئية إلى مرتبة أعلى وأشمل هي مرتبة القوانين التي تسير تلك الأشياء على سننها وبمقتضاها.

ولكن كيف يتم هذا الانتقال من مرحلة الجزئيات إلى مرحلة استخراج الصورة أو القانون؟ يرى بيكون، ألا توضع الأمثلة الجزئية أمام الباحث أكداساً مهوشة، ثم يجيل فيها بصره كيف شاء، بل يشترط لصحة السير أن تنظم تلك الأمثلة وتبوب في قوائم .

1- القائمة الأولى تسجل فيها الأمثلة المؤيدة، فيثبت فيها مجموعة الأمثلة التي تتفق كلها في صفة بعينها، فإن كان موضوع البحث مثلاً هو الحرارة، وجب أن يسجل في هذه القائمة كل ما اتصل به علم الباحث من مصادر الحرارة على اختلاف صنوفها وتباين ألوانها. 

فتذكر الشمس والمصابيح وسائر الأسباب الإضاءة، ثم تذكر الأجسام المحترقة كلها، ثم يذكر دم الحيوانات والحديد المحمي وغير هذا وهذا من آلاف الأشياء الحارة، لأنها مظهر للحرارة التي هي موضوع البحث.

2- ولكن هذه القائمة الأولى وحدها لا تغني في البحث شيئاً، لأنها تشتمل على الأمثلة التي تؤكد ظاهرة الحرارة وتؤيدها، ولابد لنا إلى جانبها من قائمة ثانية لأمثلة تنفي وجود الحرارة، أعني الأشياء لا يكون فيها شيء من الحرارة، إذ المعرفة الإيجابية كلها إنما تستمد من المعرفة السلبية. 

ويعبر بيكون عن ذلك بعبارات مجازية فيقول إن كل الضوء مبعثه الظلام، وإله الحب إنما خرج من بيضة فقست في ظلام الليل.

سنضع إذن في هذه القائمة أمثلة لأشياء لا حرارة فيها على أن يكون بينها وبين أمثلة القائمة الأولى علاقة شبه، فقد ذكرنا في القائمة الأولى مثلا الشمس كمصدر للحرارة، فتذكر هنا القمر مثلاً لأشعة لا حرارة فيها. وقد ذكرنا في القائمة الأولى دم الحيوان الحار ليؤيد ظاهرة الحرارة، فتذكر هنا دم الأسماك والحيوانات الميتة لأنه بارد، وإذن فهو ينفي ما أثبتته القائمة الأولى.

3- وليست تكفيك هاتان القائمتان إن أردت دقة في البحث وضبطاً وإحكاماً في النتائج، بل لابد من قائمة ثالثة تستخدمها للمقارنة فتضع فيها مجموعة من الأمثلة تختلف فيها الظاهرة التي أنت بصدد بحثها قوة وضعفاً، فتذكر أشياء تقل فيها درجة الحرارة، وإلى جانبها أشياء أخرى تشتد فيها درجة الحرارة لكي تستطيع بمقارنة بعضها ببعض أن تستنبط السبب,
الذي يدور مع ظاهرة الحرارة كثرة وقلة.

4- عملية التنحية أو العزل وليست هذه القوائم الثلاث هي كل شيء، فإنك إذا ما فرغت من إعدادها كان لزاماً عليك أن تتبعها بخطوة أخرى هي أقوم جزء في طريقة بيكون، ألا وهي عملية العزل والإقصاء. ففي بحثك عن سبب الحرارة مثلاً.

ستتناول القوائم الثلاث التي أعددتها - قوائم الإثبات والنفي والمقارنة ثم تأخذ في رفض أمثلة مما أثبت في القائمة الأولى لما يتبين لك من القائمة الثانية أنه لا يمكن أن يكون سبباً للحرارة، فترفض مثلاً أن يكون دم الحيوان سبباً للحرارة، لأن هناك من الحيوانات ما دماؤها باردة، وهكذا تظل تعزل مثلاً في إثر مثل حتى يبقى في النهاية ما يدل على السبب الحقيقي. 

5- الأمثلة الصليبية ولكن ربما بقى لديك أكثر من سبب وعجزت عن ترجيح أحدها، لأن كلاً منها تؤيده أمثلة ليس ما ينفيها في قائمة النفي، فواجبك عندئذ أن ترسل البصر إلى العالم الخارجي مرة أخرى عسى أن تصادف في الطبيعة حقيقة تعينك على ترجيح سبب على سبب.

فإن وجدت مثل هذه الحقيقة كانت لك في ضلالك مرشداً وهادياً، لأنها ستشير لك إلى الطريق السوي كما تفعل الأنصاب الحجرية التي يقيمها الناس عند ملتقى الطرق لهداية السائرين، وكثيراً ما تكون تلك النصب على هيئة الصليب، ولهذا أطلق بيكون على الأمثلة المرجحة اسم الأمثلة الصليبية.


مقالات فرانسيس بيكون

كان بيكون إلى جانب الحياة العملية مفكرًا عميق الفكر, كاتبًا رائع البيان وأجمل إنتاجه الادبي طائفة من المقالات دبجها بأسلوب بارع أخاذ, حتى جاءت في جمال لفظها وجلال معناها, مجموعة نفيسة نادرة من أروع ما أنتجه الفكر الانساني منذ نشأته الى اليوم, فقد بلغ فيها من جودة النثر ما بلغه شكسبير من روعه النثر.

وإن كانت الكتب تنقسم الى مراتب ثلاث, كما قال بيكون "بعض الكتب ينبغي أن يذاق وبعضها يجب أن يزدرد وبعضها القليل خليق أن يمضغ ويهظمُ", لقد كانت مقالاتهِ بغير شك من هذا القليل النادر الذي يستحق المضغ والهضم, وهي في مجموعها صورة صادقة دقيقة لكاتبها, تمثل جوانبهِ كُلها.

ففيها تصوير لفلسفته الأخلاقية التي تنزع الى القسوة الميكافيلية أكثر منها الى الحب المسيحي, وتصوير لنزعتهِ الدينية التي يذهب فيها الى العقيدة بأن العقل يكفي وحده دون الوحي والالهام لتنظيم الكون.

وقد أتهمهُ معاصره بالإلحاد ولكنه ينكر ذلك في مقال كتبهُ في الإلحاد يقول فيه : "أن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان الى الإلحاد ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول الى الايمان, ذلك لأن عقل الانسان قد يقف عندما يصادفهُ من أسباب ثانوية مبعثرة, فلا يتابع السير الى ما وراءها, ولكنه إذا أمعن النظر فشهد سلسله الاسباب كيف تتصل حلقاتها لا يجد بدًا من التسليم بالله.

وأما رايه السياسي كما يظهر في المقالات فهو محافظ جامد, وليس ذلك بعجيب من رجل يطمح الى المناصب الحكومية, فهو لهذا ينشد قوة مركزية متينة, ويرى أن الملكيه خير أنواع الحكومة, وهو يحب الحرب ولا يميل إلى السلم .

الخاتمة : كاد يحقق فرانسيس بيكون حلم أفلاطون, عم الملك الفيلسوف, الذي يجمع في شخصهِ الفكر والسلطان جميعًا, ذلك لأنه في الوقت الذي كان فيه يرتقي بالمناصب السياسية, يرتقي في فلسفتهِ أيضًا, فكان فعلًا من عباقرة التاريخ, الذين نادرًا ما يكررهم الزمن .
google-playkhamsatmostaqltradent